الأوراق النقاشية
بقلم عبدالله الثاني ابن الحسين
13 أيلول/سبتمبر 2014
"نجحنا في إيجاد ربيع أردني خاص بنا، ومضينا في تسريع وتيرة الإصلاحات المبنية على نموذج إصلاحي تطويري متدرج، ويقوم على إشراك جميع فئات المجتمع في العملية السياسية"
شرعت، قبل نحو سنتين، في المساهمة في النقاش الوطني الدائر حول عملية الإصلاح عبر سلسلة من الأوراق النقاشية. وقمت من خلال الأوراق النقاشية الأربعة الأولى بإيجاز رؤيتنا الإصلاحية وهدفها النهائي المتمثل في ديمقراطية أردنية متجددة وحيوية تقوم على ثلاث ركائز، وهي: ترسيخ متدرج لنهج الحكومات البرلمانية، تحت مظلة الملكية الدستورية، معززا بمشاركة شعبية فاعلة أو ما وصفته بـ "المواطنة الفاعلة".
إن الأردن، وبمنعته المعروفة، يواجه تحديات إقليمية غير مسبوقة تحيط بنا وترهق اقتصادنا. ورغم هذه التحديات، فإن عملية الإصلاح السياسي مستمرة. ويجدر بنا الوقوف هنا على ما تم تحقيقه على طريق إنجاز ديمقراطية أردنية متجددة منذ أن نشرت ورقتي النقاشية الأخيرة في حزيران 2013.
فقد نجحنا في إيجاد ربيع أردني خاص بنا، ومضينا في تسريع وتيرة الإصلاحات المبنية على نموذج إصلاحي تطويري متدرج، ويقوم على إشراك جميع فئات المجتمع في العملية السياسية. ولنتذكّر جميعا أيضاً بأن الهدف النهائي لعملية الإصلاح السياسي النابعة من الداخل يترجم من خلال تمكين المواطنين من القيام بأكبر دور ممكن في صنع القرار عبر ممثليهم المنتخبين. وعليه، فإن تعميق ديمقراطيتنا يترجم عملياً عبر تعميق تجربة الحكومات البرلمانية، لنصل بها إلى مرحلة متقدمة من الممارسة التي تتولى فيها الكتلة الحزبية أو الإئتلافية ذات الأغلبية النيابية، أو ائتلاف من الكتل، تشكيل الحكومات، في حين تتولى الأقلية النيابية مهام حكومة الظل، من رقابة على الحكومات ومساءلتها، وتقديم برامج بديلة، وضمان التداول الديمقراطي للحكومات.
إن تعميق تحولنا الديمقراطي يتطلب شروطاً أساسية لا بد من إنجازها ضمن مسارات متوازية ومترابطة، وقد ركز أسلوبنا في تحقيق ذلك على إنجازات تمثل محطات نجاح للجميع.
بناء على ما تقدّم، فإنني أسعى عبر هذه الورقة النقاشية الخامسة* إلى الوقوف على محطات الإنجاز التي تم تحقيقها على ثلاثة مسارات متوازية، إضافة إلى عرض محطات الإنجاز التالية التي لا بد من تحقيقها، خاصّة منظومة القيم والممارسات والأدوار والأعراف التي يجب أن نستمر في تعميقها وتطويرها حفاظاً على زخم مسيرتنا الإصلاحية، وتحقيق هدفنا النهائي بنجاح، وبشكل يلبّي تطلعات المواطنين.
وفيما يلي أهم محطات الإنجاز التي تم تحقيقها حتى الآن:
أولاً: محطات الإنجاز التشريعي:
إن هذا المسار يتضمن الإنجازات التي تم تحقيقها في مجال إصلاح التشريعات، والتي تمثل البنية الأساسية لأي نظام ديمقراطي في العالم، ومن أهمها:
• إقرار تعديلات دستورية ترسخ منظومة الضوابط العملية لمبادئ الفصل والتوازن بين السلطات، كما أنها تعزٍّز الحريات، وتستحدث مؤسسات ديموقراطية جديدة. وحالياً، فإن مجلس الأمة على مشارف إنجاز جميع التشريعات الواجب تعديلها بما يضمن توافقها مع التعديلات الدستورية.
• إنجاز حزمة جديدة من التشريعات الناظمة للحياة السياسية، والتي دخلت حيز النفاذ قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة. وقد شملت هذه الحزمة: قوانين الانتخاب، والأحزاب السياسية، والاجتماعات العامة، والتي تساهم بدورها في تعزيز أجواء العمل السياسي وتشكيل الأحزاب من مختلف ألوان الطيف السياسي.
• تطبيق قانون معدِّل لقانون محكمة أمن الدولة يحصر اختصاصها في جرائم الخيانة، والتجسس، والإرهاب، والمخدرات، وتزييف العملة، بما يكرّس المبدأ العام لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم المدنية فقط.
• أما آخر الإنجازات ضمن هذا المسار فيتمثل في التقدم النوعي الذي أحرزه مجلس النواب في تطوير نظامه الداخلي ليكون أكثر فاعلية.
ثانياً: محطات الإنجاز المؤسسي:
ويتضمن هذا المسار تعزيز بعض مؤسسات الدولة القائمة وبناء مؤسسات ديمقراطية جديدة، على النحو التالي:
• إنشاء محكمة دستورية تختص بتفسير نصوص الدستور والرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة بما يضمن احترام حقوق وحريات جميع المواطنين وفقاً للدستور.
• استحداث هيئة مستقلة للانتخاب نالت الاحترام والتقدير داخل الأردن وخارجه لدورها الرائد في إدارة الانتخابات النيابية وضمان نزاهة وشفافية الانتخابات النيابية والبلدية من خلال الإشراف عليهما، التي أجريت في غضون عام واحد، وهذه شهادة على الثقة وآفاق التجديد السياسي التي تتمتع بها مؤسساتنا. وفي إطار البناء على نجاحات الهيئة المستقلة للانتخاب، فقد شهدنا مؤخراً إقرار المزيد من التعديلات الدستورية التي توسع من مسؤوليات الهيئة لتشمل إدارة الانتخابات البلدية، وأي انتخابات عامة أخرى مثل انتخابات المجالس المحلية في المحافظات.
• تأسيس مجلس النواب مركزاً للدراسات والبحوث التشريعية يدعم عمل النواب واللجان النيابية المتخصصة، ويضمن أن يستند عمل المجلس وقراراته إلى الأبحاث والمعلومات المدعومة بالبراهين. كما شهدنا جهوداً حثيثة لتعزيز الشفافية، تمثلت بقيام اللجنة المالية في مجلس النواب بمناقشة تفصيلية لموازنات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، والديوان الملكي الهاشمي للعام 2014، وذلك في سابقة ومبادرة نوعية لمجلس النواب للارتقاء بآليات وممارسات الرقابة.
• استمرار العمل في تدعيم السلطة القضائية وتعزيز منظومة وطنية قوية للنزاهة والشفافية والمساءلة تبني على مخرجات اللجنة الملكية لتعزيز منظومة النزاهة الوطنية، ولجنة تقييم التخاصية، وتستند إلى سلطة قضائية قوية ومستقلة وعدد من المؤسسات الرقابية الرئيسة، مثل: هيئة مكافحة الفساد، وديوان المحاسبة، وديوان المظالم، وأنظمة الرقابة في القطاعين الحكومي والخاص والمجتمع المدني.
• الاستمرار في دعم المركز الوطني لحقوق الإنسان وشبكة من المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، بهدف تقوية منظومة حقوق الإنسان وضمان متابعة الحكومة لتوصيات المركز وإنهاء إعداد الخطة الوطنية لحقوق الإنسان.
• متابعة العمل في مسارات برنامج تطوير القطاع العام، من خلال: البناء على ما تم إنجازه من دمج المؤسسات ضمن مسار إعادة الهيكلة، والاستمرار في تحسين مستوى الخدمات الحكومية، وتنمية الموارد البشرية، وتطوير آليات صناعة القرار.
• أخيراً، وفي إطار مساعينا نحو حكومة برلمانية ناضجة، فإن العديد من الإصلاحات يتم تطبيقها الآن في مؤسساتنا الأمنية الوطنية. وقد انطلقت هذه الجهود مع الرسالة التي وجهتها لمدير المخابرات العامة في عام 2011 للمضي قدما في إصلاح هذه المؤسسة الوطنية الرائدة. وفي خطوة إصلاحية لا تقل أهمية، فإن الحكومة تعكف حالياً على تفعيل دور وزارة الدفاع لتتولى مسؤولية جميع الشؤون الدفاعية غير القتالية، ولتكون بالطبع جزءا من الحكومة وخاضعة لرقابة مجلس الأمة.
ثالثاً: محطات التطور الخاصة بأطراف المعادلة السياسية:
يشتمل هذا المسار على تحديد القيم والممارسات الجوهرية، والتي تقع في صميم الثقافة الديمقراطية وممارسات المواطنين، إضافة إلى أدوار الأطراف الرئيسية في المعادلة السياسية، حيث غدت القيم الضرورية لعملية تحول ديمقراطي ناجحة نحو الحكومات البرلمانية معروفة لجميع الأردنيين، وهي القيم التي لا بد من تجذيرها في ثقافتنا ومجتمعنا، وتشمل: الاعتدال، والتسامح، والانفتاح، والتعددية، وإشراك جميع مكونات المجتمع، واحترام الآخرين والشعور بهم، واحترام سيادة القانون، وصون حقوق المواطن، وتأمين كل طيف يعبر عن رأي سياسي بفرصة عادلة للتنافس عبر صناديق الاقتراع.
ولا بد هنا أيضاً من التأكيد على ضرورة استمرار "ربيعنا الأردني" في تبني الممارسات الديمقراطية الأساسية التالية: احترام مبدأ الحوار وتبنيه في سبيل تجاوز الاختلافات، والتلازم بين حقوق المواطنين وواجباتهم، والشراكة في بذل التضحيات ونيل المكاسب، وتحويل الاختلافات إلى حلول توافقية، والمشاركة الفاعلة من قبل جميع المواطنين والمواطنات.
كما يترتب على جميع أطراف المعادلة السياسية – الملكية، وأعضاء مجلس الأمة، والحكومة، والأحزاب السياسية، والمواطنين – تبني هذه القيم والممارسات وتطبيقها لدى قيامهم بأدوارهم ومسؤولياتهم الوطنية، والتي تشكل بدورها أحد المكونات الرئيسية لهذا المسار الثالث، والتي تتجلى فيما يلي:
• يقع على عاتق الملكية الهاشمية مسؤوليات توفير نهج قيادي جامع لكل المكونات يستشرف المستقبل بهدف تحقيق الازدهار لأجيال الوطن. ويقع على الملك، بصفته رأسا للدولة وقائداً أعلى للقوات المسلحّة، مسؤولية الدفاع عن قضايانا المصيرية المرتبطة بالسياسة الخارجية وأمننا القومي، وحماية تراثنا الديني ونسيجنا الاجتماعي وذلك من خلال مجلس الوزراء الذي يتولى إدارة جميع شؤون الدولة استنادا إلى الدستور. كما أن على الملكية الاستمرار بدورها كحام للدستور ولمقومات الحياد الإيجابي والاستقرار والعدالة، بالإضافة إلى مسؤولية الملكية كفيصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لتجاوز حالات الاستعصاء السياسي عند حدوثها.
• يقع على كاهل أعضاء مجلس الأمة مسؤوليات العمل بتفان لخدمة الصالح العام، وأن يعكس أداؤهم توازناً بين المصالح المحلية والمصالح الوطنية، وتوازناً بين مسؤولية التعاون ومسؤولية المعارضة البناءة للحكومة، بحيث تكون علاقة النائب بالحكومة قائمة على أسس موضوعية لا مصلحية ضيقة، وبما يضمن قيام مجلس الأمة بدوره كحاضنة أصيلة للحوار الوطني الديمقراطي.
• يقع على الحكومة ممثلة برئيس الوزراء والفريق الوزاري والعاملين في الجهاز الحكومي وضع وتنفيذ خطط وبرامج عمل شاملة تهدف إلى توفير الفرص الاقتصادية وتحقيق الازدهار الذي يستحقه ويتطلع إليه جميع أبناء وبنات الوطن. وتنفيذ ذلك يتطلب من الحكومة نيل ثقة مجلس النواب والمحافظة عليها بناء على برنامج عمل الحكومة، ووضع معايير للعمل الحكومي المتميز، وتبني نهج الشفافية والحاكمية الرشيدة والشراكة الفعلية مع مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، وترجمة كل ذلك قولاً وفعلاً.
• يقع على الأحزاب السياسية مسؤوليات الاندماج وصولاً إلى عدد منطقي من الأحزاب الرئيسية الممتدة على مستوى الوطن، والتي تمثل مختلف آراء الطيف السياسي وتتبنى برامج حزبية واضحة وشاملة.
• أما المواطنون فيقع عليهم مسؤولية المشاركة الفاعلة والبنّاءة في جميع مناحي الحياة السياسية. ويسعدني أن أرى المزيد من أبناء وبنات شعبنا يتبنون روح وفكر "المواطنة الفاعلة" على مستويات العمل المحلية والوطنية، وهو المفهوم الذي طرحته للنقاش العام خلال السنة الماضية.
قد تضاعف، وعلى مدار الخمس سنوات الماضية، عدد مؤسسات المجتمع المدني ليبلغ اليوم أكثر من 6000 مؤسسة. ونتطلع لاستمرار هذه المؤسسات في بناء قدراتها وزيادة فاعليتها وخدمة قضايا المواطنين وهمومهم، والتأثير في رسم السياسات والعمل كرقيب وطني.
وما أسعدني، في هذا السياق، هو أن أكثر من 1000 فكرة قد تم تقديمها خلال أول دورتين من نوافذ التمكين الشبابي التي يوفرهابرنامج التمكين الديمقراطي، وهي مبادرة لتمكين الشباب تم إطلاقها في حزيران الماضي تحت مظلة صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية. ومن هذه الأفكار مبادرات بعض الشباب والشابات مثل الطالبة فرات الملكاوي، التي بادرت لتطوير مجلس طلبة نموذجي ضمن مدرستها في منطقة عرجان، يحاكي مجلس النواب ويقوم على مبادئ ومعايير ديموقراطية ويتبنى مفاهيم مثل البرامج الحزبية، والحملات الانتخابية، وقواعد السلوك، وضمانات الانتخابات النزيهة. ومبادرة الطالبة هنية الضمور لإعداد 12 حلقة لبرنامج حواري تفاعلي بُثَّ عبر الإذاعات المحلية لمحافظة الكرك، ويهدف إلى تبني أسلوب يعتمد على حلول عملية لقضايا المجتمعات المحلية. ومبادرة الشاب محمد العمور التي تعالج ظاهرة العنف الجامعي عبر جلسات حوارية، ومقاطع مسرحية، والتدريب على مهارات الحوار والتفاوض والاتصال وإدارة الإختلاف، والتي نجحت في تأهيل فريق مدرِّبين وعقد ورش تدريبية في عدة جامعات. وتعد هذه الأمثلة وغيرها تجسيدا حقيقيا للمواطنة الفاعلة.
كما سيطلق برنامج التمكين الديمقراطي قريبا مبادرة أخرى في ذات الأهمية، وهي "مرصد مصداقية الإعلام الأردني – أكيد"، بالشراكة مع معهد الإعلام الأردني. وتهدف هذه المبادرة إلى تمكين المواطنين من الاطلاع بشكل موثوق ودقيق على أبرز القضايا التي تعنيهم، وذلك من خلال المساهمة في التأكد من صحة التقارير والمعلومات الواردة في أبرز وسائل الإعلام الصحفية والإلكترونية، وهو الأمر الذي يشكل عنصراً هاماً في تعزيز نظامنا السياسي ليكون أكثر شفافية ومساءلة من قبل المواطنين.
نظرة مستقبلية
أما الآن، وبعد أن تم إيجاز ما تم تحقيقه، فلا بد من النظر إلى المرحلة التالية من محطات الإنجاز التي علينا عبورها. ومن المهم أن نعي جميعا أهمية بذل أقصى الجهود للقيام بدورنا وتنفيذ مسؤولياتنا وفق أعلى معايير التميّز والعطاء والتفاني، وعلى النحو التالي:
• يتوجب على المشرّعين تطوير القوانين السياسية الرئيسية، بما يضمن التوافق والارتقاء بتجربة الحكومة البرلمانية. كما يجب أن تعطى الأولوية لقوانين الحكم المحلي عبر إنجاز قوانين الانتخابات البلدية واللامركزية أولاً. وفور الانتهاء من إنجاز هذين التشريعين الهامّين، يجب أن نمضي قدماً نحو إنجاز قانون انتخاب جديد، وسبب هذا الترتيب هو أن موعد استحقاق الانتخابات البلدية القادمة وانتخابات المجالس المحلية للمحافظات يسبق النيابية ويأتي خلال أقل من عامين، في حين أن موعد استحقاق الانتخابات النيابية القادمة يأتي بعد أقل من ثلاث سنوات، بالإضافة إلى أن قانون الانتخاب سيتأثر بمخرجات حزمة قوانين الحكم المحلي. كما أن على مجلس النواب تعزيز عمل الكتل النيابية لأثرها في تشجيع تطور العمل الحزبي، والاستمرار أيضاً في تطوير أسس وأعراف العمل النيابي، ومن ضمنها تطوير مدونة لقواعد السلوك واعتمادها.
• أما الحكومات، فيجب عليها الاستمرار في تطوير أداء القطاع العام والجهاز الحكومي بحيث يكونا على أعلى مستويات المهنية والموضوعية والحياد السياسي والقدرة على إنتاج سياسات مقترحة مبنية على البراهين والأبحاث، وتوفير النصيحة الضرورية للوزراء في الحكومات البرلمانية مستقبلاً. كما يتوجب على الحكومات أيضاً إعداد استراتيجيات وخطط عمل بعيدة المدى تعتمد نهجاً تشاورياً في التواصل مع المواطنين، وبشكل فعّال يتوخى الالتزام بالمساءلة والشفافية في إعلان الموازنات وأسلوب إدارة المشاريع الوطنية. وعلى الحكومة أيضاً المضي قدماً في تفعيل وزارة الدفاع كما أشرت سابقاً.
• يتعين على الأحزاب السياسية الاستمرار في تطوير نظمها الداخلية بحيث تتطور إلى أحزاب برامجية ذات كفاءة وتأثير وحضور على مستوى الوطن، قادرة على الفوز بأغلبية أصوات الناخبين. كما عليها أن تولي جلّ عنايتها أيضاً لتأهيل قيادات كفؤة وقادرة على تولي المناصب الحكومية وصولا إلى تطبيق متقدم للحكومات البرلمانية. وبالتوازي مع ذلك، فيجب أن تستمر جهود تعزيز وتطوير أداء وعمل الكتل النيابية في مجلس النواب لإنها تشكل حافزاً هاماً لتطوير أحزاب برامجية ذات حضور وطني.
• ويتوجب كذلك الاستمرار في بناء قدرات السلطة القضائية لأن العدل هو أساس الحكم، بالإضافة إلى تطوير قدراتالمحكمة الدستورية والهيئة المستقلة للانتخاب لتمكينهما من إطلاق كامل طاقاتهما والعمل وفق أفضل الممارسات العالمية، لتغْدُوا مراكز تميّز على مستوى الإقليم.
• وعلى اللجنة الملكية لتقييم العمل ومتابعة الإنجاز لتعزيز منظومة النزاهة الوطنية الاستمرار في متابعة وتقييم تنفيذ توصيات اللجنة الملكية لتعزيز منظومة النزاهة الوطنية.
• وعلى مؤسسات المجتمع المدني، ومن ضمنها الجامعات ومراكز الدراسات، إضافة إلى القطاع الخاص لعب دور أكبر في المساهمة في إنتاج أفكار وأبحاث تقدم حلولاً للتحديات التي تواجهها المملكة. ولتيسير ذلك، فلا بد من استمرار الاستثمار في البحث العلمي ومؤسسات المجتمع المدني، وتوسيع حجم المبادرات الناجحة، وإتاحة أدوات إبداعية جديدة تشجع ممارسات الحوار والتطوع والمساءلة والشفافية والحق في الحصول على المعلومات.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن أبرز التحديات التي نواجهها في ضوء عمليات التطوير تتمثل في المحافظة على التوازن الدقيق بين مختلف السلطات، بحيث تعمل فيما بينها بفاعلية وتبقى مستقلة في ذات الوقت. ومع أن دستورنا وتشريعاتنا تسهّل المحافظة على هذا التوازن، إلا أن التجارب الديمقراطية في مختلف دول العالم، وعلى امتداد التاريخ، أظهرت أنه من المستحيل لأي دستور أو مجموعة تشريعات التنبؤ والتحوط لمختلف الظروف مستقبلا.
جزء من الحل لهذا التحدي يتمثل في القدرة على اتخاذ أفضل القرارات في مواقف غير محكومة بقواعد أو أنظمة مدونة، وهو ما يتعارف عليه بـ"الأعراف السياسية" التي تحكم عادات وممارسات أطراف العملية السياسية، وهي تلعب دورا مهما في كل أنظمة الحكم في العالم، خاصّة البرلمانية، وقد أشرت إلى أهميتها في الورقة النقاشية الثانية. والأعراف السياسية هي عادات وممارسات غير مدوّنة، قد لا يكون لها قوة القانون، إلا أنها شرط أساسي لعمل نظامنا السياسي بشكل فعّال وواقعي. ومن أمثلتها في ممارستنا السياسية كتاب التكليف الذي يوجهه الملك للحكومات، والذي يعد عرفاً سياسياً يُستدل من خلاله على أبرز المسؤوليات والمهام المنتظرة من الحكومة، ويشكل تنفيذها مقياسا مهماً لتقييم أداء الحكومة.
عليه، فإنه يتوجب على كل من مجلس الأمة والحكومة وأجهزتها تطوير الأعراف القائمة وإرساء أعراف جديدة في ظل بروز تغيرات وتحديات متنامية. وفيما يلي عرض لعدد من المجالات التي يساعد تطوير أعراف حولها في تعزيز التعاون والتنسيق بين مختلف المكونات السياسية:
لآلية التشاورية لتكليف رئيس الوزراء، وذلك في ظل استمرار تطور ممارسات ديمقراطيتنا البرلمانية. بالإضافة إلى آلية إعداد رئيس الوزراء المكلف والحكومة المكلفة لبرنامج عملهم لمدة أربع سنوات، والذي يعتبر أحد أسس منح مجلس النواب الثقة للحكومة.
من بين المجالات أيضاً، تنظيم جلسات الأسئلة والاستجواب فيما بين مجلس الأمة والوزراء، بأسلوب يراعي مبادئ الشفافية والمساءلة وحق الحكومة في ممارسة السلطة، دون التهديد بالتلويح بحجب الثقة أو التقدم بطلب استجواب من قبل أعضاء مجلس النواب لمجرد تعارض قرارات الحكومة مع مصالح فئوية وشخصية ضيقة، بالإضافة إلى تحديد أدوار مجلس الوزراء ومجلس الأمة والجهاز الحكومي خلال مراحل التغيير الحكومي، والتي تشمل: فترة التشاور لتكليف رئيس وزراء جديد، وفترة تسيير الأعمال لحين تشكيل الحكومة، والفترة الزمنية لحين منح مجلس النواب الثقة للحكومة بناء على أعضائها وبرنامج عملها لأربع سنوات.
في ظل كل ما تقدّم، فلا بد من الإشارة هنا إلى أنه ما زال أمامنا الكثير من العمل لبناء ديمقراطية مكتملة العناصر، وتحقيق هدفنا النهائي المتمثل في الحكومات البرلمانية الناضجة. وآمل أن يكون ما عرضته في هذه الورقة لنموذجنا الإصلاحي ولمحطات الإنجاز التي قطعناها قد أوضح كيف يجب أن نمضي في الإصلاح ضمن مسارات متوازية ومترابطة، وأن يمنحنا الثقة والحافز لتحقيق المزيد من الإصلاحات وإنجاز محطات إصلاحية قادمة ضمن مسارنا الديموقراطي.
ولنتذكر جميعاً أن نجاحنا في الوصول إلى الهدف النهائي للإصلاح مرهون بقيام جميع أطراف العملية الإصلاحية بمسؤولياتهم وأدوارهم والارتقاء بها، وبترسيخ القيم والممارسات الديمقراطية، وتعزيز الأعراف القائمة وتطوير الضروري منها، وبتحقيق مستويات النضج السياسي الضروري لإنجاز متطلبات كل محطة إصلاحية.
يترتب علينا في هذا المجال مسؤولية جماعية في احتضان القيم والممارسات الديموقراطية والاستمرار في تطويرها مستقبلا، من خلال تجذيرها في منظومتنا القيمية والتربوية والتشريعية عبر حملات التوعية والمناهج، وتمكين المؤسسات الوطنية المسؤولة عن صون هذه القيم والممارسات.
أود أن أنهي هذه الورقة بالتأكيد على أن الأمن والديمقراطية والرفاه هي دعائم المستقبل، ويعتمد كل منها على الآخر، فالتحديات الراهنة تمثل واقعا استثنائيا ضاغطا، لكن الأردن ماض بثقة على مسار التنمية السياسية الذي اختطه. أما اقتصادنا الوطني، وفي ظل ما يواجهه من أعباء هائلة، فإننا بحاجة لتركيز كل الجهود لتحفيزه ودفع عجلته.
كما كرّست المجموعة الأولى من أوراقي النقاشية للمساهمة في النقاش الوطني حول طبيعة النظام السياسي الذي يجب أن نطوره لمستقبل الأردن، فإنني سأكرس الورقة النقاشية القادمة لمناقشة الفرص المتأتية من بناء نموذج اقتصادي جديد ومستدام يسعى لتحسين مستوى معيشة أبناء وبنات الوطن، في ضوء التصور المستقبلي للاقتصاد الوطني للسنوات العشرة القادمة الذي وجهت الحكومة لإعداده. وعليه، فإن الرؤية الاقتصادية والاجتماعية التي يحتاجها الأردن ستكون المحور الرئيسي للأوراق النقاشية القادمة التي أعتزم المساهمة بها قريبا في النقاشات الوطنية.