خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في محكمة العدل الدولية، لاهاي

٣١ تشرين أول ٢٠٠٦

 

بسم الله الرحمن الرحيم

السيدة الرئيسة، [ السيدة روزالين هيجنز]

أعضاء المحكمة الأفاضل،

الشكر لكم على ترحيبكم الرقيق. إننا نقدّر، رانيا وأنا، كلماتكم الكريمة الطيبة. وإنه لشرف لنا أن نكون بينكم اليوم.

إن المؤرخ المسلم العظيم ابن خلدون يقول أن منصب القاضي له منزلة لدى الباري جلّت قدرته، لا يضاهيها شيء. وكلماته هذه تعكس احترام الإسلام العميق لدور المحكمة في إقامة مجتمع إنساني عادل فاضل. واليوم، فإن القيادة التي تمارسها هذه المحكمة نيابة عن العدالة العالمية... وإخلاصكم لاستحضار مزايا ومنافع حكم القانون وتفعيلها في الشؤون العالمية... ومعايير النزاهة العالية الرفيعة لديكم - قد فتحت أبواب الأمل أمام ملايين الناس. ونحن في الأردن نعتزّ بصورة خاصة أن القانوني الأردني المتميّز، نائب رئيس محكمتكم الموقرة عون الخصاونة، يشترك فيما تنهض به هذه المحكمة من عمل عظيم. أعضاء المحكمة الأفاضل، السيدة الرئيسة، إنني أتوجه إليكم جميعاً نيابةً عن جميع الأردنيين، بالشكر لكل ما تبذلونه من جهود لا تعرف الكلل، ولنزاهتكم، وشجاعتكم، وحكمتكم.

السيدة الرئيسة،

هنا في لاهاي، في عام 1899، وجّه العالم الحديث أنظاره لاستِحْضار حكم القانون وتفعيله في مجال الشؤون الدولية. وفي العقود التي تلت - وأثناء سنوات من الحرب والسلام، والأزمات والفرص المتوافرة - سارَ حُكْم القانون إلى الأمام. واليوم، تحملُ هذه المحكمة الـمُشّرفة الرؤيةَ التي يمثّلها العالم الحديث وتدخل بها إلى القرن الحادي والعشرين: نظاماً قانونياً عالمياً في خدمة العدالة والسلام.

ويمكنني القول إنها رسالة تتلاءم أكثر فأكثر مع زمننا العالمي. الزمن الذي نشهد فيه التأثير العالمي للنزاع الإقليمي... والانتشار العالمي الممتد للصدمات والتوجهات الاقتصادية... وتدفقات الناس والأفكار ما بين الأقاليم... وواقع المشكلات البيئية والهموم الصحية الذي يَعمُّ الأرض بمجموعها: ففي هذه والعديد غيرها من الوسائل تشترك دولتانا في الأحداث الجارية، وستشترك في مستقبل العالم. ومدى نجاحنا يعتمد على تعاوننا وما نقوم به من تنسيق. وليس هناك ما هو أهم لهذا الجهد من وجود نظام قانوني عالمي عادل.

السيدة الرئيسة،

إن الأردن ملتزم بوضوح بقضية السلام والشرعية الدوليين. وهذا الالتزام يتجلّى في احترامنا لهذه المحكمة، ونيتنا الحسنة في التعامل مع الواجبات التي ترتبها علينا المعاهدة، ودعمنا لمؤتمرات الأمم المتحدة والأدوات القانونية الدولية، ودورنا النَشِط الفعّال في حقوق الإنسان، بما في ذلك برنامجنا الوطني القوي في هذا المجال.

 

ونحن نسترشد في هذه الالتزامات بهّدْي موروثنا العربي - الإسلامي. السيدة الرئيسة، لقد تحدثتِ اليوم عن الإسهامات الرائدة للإسلام في تطور القانون والعدالة العالميين. وفي واقع الأمر يرى المسلمون أن المواطنة العالمية الصالحة - المتمثلة في العدالة والنزاهة في التعامل ما بين الناس، بغضّ النظر عن الدين أو الجنس أو الجنسية- تعتبر حجر الزاوية في الحياة الفاضلة القائمة على التقوى. يقول تعالى في القرآن الكريم: { اعدِلوا، هو أقرب للتقوى}، ويقول سبحانه : {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}.

لقد أعلت الحضارة الإسلامية من شأن تسوية الخلافات بالقانون لا بالقوة - بين الدول كما بين الناس. وقد كان هذا هو محور الجهد المتواصل للأردن، كصانع سلام على المستوى الإقليمي والمستوى العالمي. ونحن اليوم نكرّس كامل جهدنا لفض النزاع في منطقتي. وهذا يشمل العمل بصورة وثيقة مع الدول العربية الأخرى لإيجاد استراتيجية مُوحّدة يمكنها أن تحقق وعد السلام.

لقد عانى شعبنا في الشرق الأوسط معاناة هائلة نتيجة للنزاع. وهناك حاجة مُلحّة للجهود الدولية لمساعدة العراق ولبنان على تحقيق الأمن وإعادة بناء مجتمعيهما واقتصاديهما. وقد وفر الأردن مساعدات إنسانية في العراق، إضافة إلى تدريب العاملين في القطاع المدني وقطاع الأمن. ونحن نبقي قنوات الحوار مفتوحة مع جميع القادة العراقيين لتشجيع المصالحة الوطنية في بلدهم. وفي الأزمة اللبنانية، عمل الأردن على أن يكون من أوائل الذين دعوا إلى وقف النار، ووفّر الدعم الإنساني وأنواعاً أخرى من الدعم بصورة فورية.

ومثل هذه الإسهامات، من بلدان عدّة، أساسية لوضع هذه البلدان، والمنطقة ذاتها، على طريق السلام. ولكننا لن نحقّق الأمن الإقليمي إلا إذا ركزنا على القضية المحورية في الشرق الأوسط، وهي القضية التي شكلّت تحدّياً متصلاً للسلام والنظام العالميين: قضية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.

ولم يكن هناك أي نقص في القرارات الدولية حول ما يتوجب عمله لفضّ هذا النزاع. ولكن في غياب رأي قانوني يُعْتَدُّ به، لم يبقّ امام أطراف النزاع إلا تفسير هذه القرارات... وسيطرت السياسة، كما هي العادة، على عملية التفسير هذه.

وقبل عامين، وجد هذا النزاع - الذي هو النزاع الذي مضى عليه أطول مدة وهو معروض على الأمم المتحدة دون حلّ - طريقه إلى هذه المحكمة الموقرة. ولأول مرّة في تاريخ هذا النزاع المرير، حظي العالمُ بالحصول على منظور قانوني مجرّد عن الهوى لهذا النزاع.

وكان الرأي الاستشاري الذي كتبه قضاة المحكمة أكثر من إعلان حول عدم قانونية الجدار- وهو حاجز بُني ليعمق الانقسام بدرجة أكبر بين الإسرائيليين والفلسطينيين... حاجز يوفر الديمومة للنزاع في منطقتنا. وبإطلاق أحكامها بصورة واسعة شاملة في قضايا متصلة بالشرعية، طال عليها الأمد، قدّمت هذه المحكمة للعرب والإسرائيليين والمجتمع الدولي أرضيةً راسخة صلبة لبناء السلام في منطقتنا - أساساً جديداً للشرعية والعدالة الدوليين. وقد أصدرت هذه المحكمة حكمها، بوضوح، في أن المناطق الفلسطينية مُحتلّة... وبأن للشعب الفلسطيني حقا قانونيا في تقرير مصيره بنفسه، على الأرض الفلسطينية... وأن النزاع سيصل إلى نهايته فقط عندما توضع جميع قرارات مجلس الأمن المتصلة بهذا النزاع موضع التطبيق، بصورة نهائية.

إن الرأي الذي أصدرته المحكمة يعالج المظالم العميقة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني على مدى عقود عديدة. ولن يكون هناك سلام دائم إلا إذا صُحّحت هذه المظالم، وفق الشرعية الدولية بصورة كاملة. وهذا هو الأساس التي بنيت عليه مبادرة السلام العربية التي تعتبر مَعْلماً على طريق السلام. وقد صيغت هذه المبادرة في مؤتمر عقد عام 2002 وحضرته جميع الدول العربية، وقدّمت تسوية شاملة... تضمن أمن إسرائيل للعيش بسلام مع جيرانها... وتوفّر ما طال انتظاره، وهو دولة فلسطينية مستقلة، قابلة للحياة، وذات سيادة.

إن هذا الحل القائم على دولتين يتوافق مع الشرعية الدولية، وقد حظي بدعم المجتمع الدولي إضافة إلى الأطراف المعنية. وفي الواقع، فإن محكمة العدل الدولية أكدت، في الحكم الذي أصدرته، على الحاجة لحلّ كهذا يتمّ الوصول إليه بالتفاوض، حلٍّ يؤدي إلى تأسيس دولة فلسطينية، تقوم إلى جانب إسرائيل، وجيرانها الآخرين - مع تحقيق السلام والأمن للجميع في المنطقة.

ومن الأهمية بمكان الآن أن يتم دفع العملية السلمية إلى الإمام على هذا الأساس. وعلى الدول المّعْنيّة أن تعمل معاً - وبإلحاح متجدّد. فكل يوم يمرّ والنزاع قائم، وكل يوم يَزْداد فيه الوضع الإنساني للشعب الفلسطيني سوءًا، وكل يوم يشعر فيه شبابنا وشاباتنا أن النظام العالمي تخلّى عنهم.... وكل يوم من عدم الثقة والفرص المضاعة، سيجرفنا بعيداً ويدفعنا إلى طريق الكارثة على المستويين الإقليمي والعالمي.

السيدة الرئيسة،

لقد تأسست منظمة الأمم المتحدة وهذه المحكمة على المبدأ القائل بعدم جواز السماح للعنف والقوة واللاشرعية بتقرير المستقبل. والشعب العربي يوافق على هذا. ونحن نعرف أن الحلول أحادية الجانب لن تجلب السلام. فالسلام يتطلّب شراكة ذات رغبة صادقة، ومفاوضات ذات توجّه نحو تحقيق النتائج، وتسوية تكون متوافقة بصورة تامة مع الشرعية الدولية.

لا تلعب هذه المحكمة أي دور في الجهود الدبلوماسية والسياسية. ومع ذلك فإن عملكم - وفي الواقع عمل نظام المحكمة الدولية بأسره - يقدّم إسهاماً أساسياً لا غنى عنه. فمن خلال السمعة الطيبة لهذه المحكمة، وأصواتكم المؤثرة، يمكن لعالمنا أن يعزّز القانون الدولي والكياسة في التعامل .... عاملاً على إيجاد مسار أكثر ثباتاً ورسوخاً للتوصّل إلى السلام.... وواضعاً أقدامنا على طريق تحقيقِ هدفٍ نحتاج إليه جميعاً بصورة مُلحّة.

هناك حقيقة قديمة: إن السلام والاحترام بين الدول يعتمد على الثقة، والثقة تعتمد على توقع تحقيق العدالة. وأنا أتعهد بأن يواصل الأردن تقديم الدعم. ومعاً، يمكننا، بمشيئة الله، أن نبني نظاماً قانونياً عالمياً سيحمي الناس في عالمنا ويمكّنهم من بلوغ غاياتهم.

وأشكركم جزيل الشكر.