خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الهولندي، لاهاي

٣٠ تشرين أول ٢٠٠٦

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب السعادة رؤساء اللجان،

أعضاء البرلمان الأفاضل،

يشرفني أن أتحدث أمام هذه المؤسسة التاريخية العريقة. فقد قامت هولندا بدور قيادي من أجل تحقيق الشراكة بين الدول... وهي تعمل بصدق منذ زمن طويل على دعم السلام في منطقتي... وهي صديقة نثمن صداقتها للأردن. إن العالِم الهولندي الشهير إيراسموس بدأ أطروحته حول السلام بعبارة "السلام يتكلم". وعلى مدى سنوات عديدة، كان صوت السلام هو صوت بلدكم. ونحن نسمعه، ونشكركم.

أصدقائي،

إننا نجتمع هنا في وقت تكتنفه تحديات خطيرة مشتركة: تحقيق الفرص الاقتصادية والأمن في عصر المنافسة العالمية؛ وتقوية الروابط بين الشعوب والثقافات؛ وتلمُّس المسار الذي يؤدي إلى السلام من ثنايا النزاعات المريرة، وإعادة بناء الدول الممزّقة. وربما كان التحدي الأهم، هو أن نوفّر للشباب المستقبل الواعد الذي يحتاجونه ويستحقونه.

إننا لا نستطيع مواجهة هذه التحديات ونحن منفصلون عن بعضنا بعضاً، ومنقسمون. ولكننا نستطيع مواجهتها بالعمل معاً. لأنه في الوقت الذي لا يمكن فيه لأي دولة أن تكون معزولة عن مشكلات العالم.... فإن على كل دولة أيضاً تقديم مساهمتها الخاصة لتحقيق التقدم والسلام.

إن الحقيقة التي لا مفر منها هي أنه ليس هناك قالب محدد نسير به الى الامام: فليس هناك صيغة سياسية صحيحة، وحدها دون غيرها؛ ولا ثقافة عالمية واحدة، ولا طريق واحد للتنمية. والسلام الأحادي الجانب ليس سلاماً على الإطلاق. فالمستقبل يعتمد على التعاون، سواء على مستوى الحيّ الذي نعيش فيه أو على مستوى العالم. وهذا يعني البناء على مكامن القوّة التي نسهم بها جميعاً: ثقافاتنا وتراثنا المتفرد؛ وما لدينا من نماذج التميّز؛ وما نساعد به أولئك الذين هم بحاجة للمساعدة؛ وفوق ذلك كله - الاحترام المتبادل بيننا.

إن مثل هذه الشراكه تقع في قلب الجهود الدولية الحديثة لجَسْر عوامل الفُرْقة الثقافية، وخاصة بين المسلمين وغير المسلمين. لقد رأينا السرعة التي تنتشر بها مظاهر سوء الفهم، والضرر الذي يمكن أن تُحْدثه. وعلينا أن نتحرك بالحزم اللازم في مثل هذه الحالات لتلافي مثل هذه الأزمات قبل حدوثها.

إن واقع الحال يشير إلى أن غالبية الناس في الجانبين هم من ذوي النيات الحسنة. وهناك روابط قوية بين الإسلام والمسيحية واليهودية. ونحن نؤمن بقيم متجذّرة لدينا نشترك فيها: التسامح، واحترام الآخرين، والشعور بالمسؤولية تجاه المحتاجين، والمواطنة الصالحة، واعتبار السلام في قمة الاهتمامات.

وهناك الكثير الكثير الذي نحتاج إلى القيام به لبناء التفاهم. وأشعر بالاعتزاز لأن المملكة الأردنية الهاشمية، البلد الإسلامي، قامت بدور قيادي في هذه المجال. فبلدنا موطن للمسيحيين منذ بدء المسيحية، وله تقاليد ممتدة على الزمن في احترام الجميع. وعملنا، على مستوى العالم، على بناء حوار نشط بين الأديان. ونعمل بصورة وثيقة مع المسلمين في كل مكان لتأكيد تعاليم الإسلام الصحيحة وتثبيتها في الأذهان، متوخين تحقيق التعايش السلمي مع الآخرين واحترامهم، ومُعلنين إدانتنا للتطرّف والإرهاب. ونحن مستمرون في إسماع رسالتنا. فقد أعلنت المؤتمرات العالمية للعلماء المسلمين إجماعها على بُطلان الفتاوى المتطرفة التي تخالف مبادئ الإسلام وتبرر العنف.

إن المسار نحو التسامح والاحترام ليس مقتصراً على المسلمين وحدهم. فعلى جميع الدول والشعوب أن تقوم بدور في هذا السياق. وهذا يعني رفع الصوت ضد الصور النمطية والتحقير على كل مستوى- كما يَعْني ترجمة هذا الالتزام إلى أفعال. والأهم من ذلك كله، يا أصدقائي، أدعوكم لننهض معاً لنعلّم ونساعد الجيل الأصغر سناً في بلدينا، في تشكيل مستقبل جديد نحترم فيه الاختلافات ونتفهم أننا شركاء في الانسانية.

إن الشراكة أيضاً تقع في صميم التنمية الاقتصادية العالمية. فقرننا قرن تتوافر فيه مظاهر تقدّم اقتصادي عظيمة - وإمكانات هائلة. ولكن هناك حاجة ملحّة لتوسيع نطاق الفرص المتاحة والازدهار. والاختلالات العالمية في توزيع الثروة، والافتقار إلى الأمن الاقتصادي، وغياب الأمل، تشكّل جميعها أخطاراً لا يمكن تجاهلها. وعلينا أن نقوم بالتصدّي لها. إن إيجاد اقتصاد عالمي منصف قوي شامل لا يستبعد أحداً، ليس مجرد هدف مثالي- بل هو أمر أساسي هام لتحقيق الاستقرار والازدهار للعالم بأسره.

إن استراتيجية التنمية في بلدي ركّزت على الإصلاحات التي ستساعد شعبنا على المنافسة في السوق العالمي. ونحن نعمل على تحسين التعليم... وجعل تحقيق التنمية هدفا في كل قطاعات المجتمع وتطبيق اللامركزية في تحقيق هذه التنمية... وتقوية القطاع الخاص الذي يخلق الوظائف... وتشجيع الاستثمار التصديريّ التوجّه. وكان لجهودنا نتائج إيجابية يمكن قياسها حاليا من خلال ما تحقق من إنتاجية قوية ونمو في الناتج المحلّي الإجمالي، وتناقص في عجز الموازنة والدَين العام.

والواقع أن الأردن واحد من البلدان الرئيسية ذات الدخل المتوسط - المتدنّي التي تقود العالم النامي من حيث النجاح الذي حققته في مجال الإصلاح. ولضمان استمرار هذا التقدّم، قمت قبل فترة وجيزة بعقد اجتماع لمجموعة جديدة من البلدان ذات الدخل المتوسط - المتدنّي، والتي يُشار إليها بمجموعة الاحدى عشرة. ونحن نعمل لحشد الاعتراف الدولي والدعم العالمي. فالمساعدات التنموية، وإجراءات التجارة المنصفة، وشطب الديون، ليست الوسائل الوحيدة التي يمكن للعالم الصناعي المتقدم أن يساعد من خلالها هذه الدول. ففي نفس الدرجة من الأهمية، هناك الفرص في مجال التجارة، والشراكات الاستثمارية، التي توفّر إمكانية الربح للجميع.

لقد لعبت هولندا لعبت دوراً ملتزماً إيجابياً في جهود التنمية العالمية. ونأمل أن تشهد السنوات القادمة استمرار بلدينا في التعاون في جميع مناحي التنمية.وأحد المجالات الهامة هو تبادل المعرفة في الممارسات الفضلى التعليم، والتجارة العالمية، والريادة.

إننا لا نستطيع أن نتحدث عن التنمية والتقدّم دون التحدّث عن السلام - عن الشراكة العالمية التي قد تكون الأهم بين الشراكات كلّها.

إن الأزمات الحديثة وتلك المستمرة في الشرق الأوسط تمثّل تحدّياً لجميع الدول. فقد عمل النزاع وعدم الاستقرار والاحتلال في منطقتنا، على صدم العالم كله. والسلام في أرجاء المنطقة يحتاج إلى جهودنا المشتركة كاملة.

ففي العراق، هناك مسؤولية أساسية هامة لمساعدة الشعب العراقي على إعادة البناء والاستقرار. ونشوب حرب أهلية في العراق سيشكّل تهديداً رئيسياً لأمن جميع الدول المجاورة. علينا أن نتواصل مع جميع الفئات العراقية، لنؤكد لهم دعمنا لاستقرار العراق ولنساعدهم في محاربة الإرهاب. وقد اتخذ الأردن خطوات مهمة لمساعدة الشعب العراقي من خلال تقديم المساعدات الإنسانية، وتدريب الموظفين المدنيين والعاملين في مجال الشرطة، والقيام بجهود المصالحة بين فئات الشعب العراقي. ونحن نقدر ما التزم به بلدكم - على مستوى الدولة ومن خلال الاتحاد الأوروبي- لدعم أمن العراق واستقراره. وهذا الدعم النَشِط كان، وسيظلّ، أمرا أساسيّاً.

إن لبنان يتطلّب أيضاً اهتمامنا، وقد قامت أوروبا بدور هام في إنهاء العدوان الذي وقع في هذا الصيف، وفي دعم الحكومة اللبنانية.

وهذه إجراءات أساسية هامّة. ولكن الاستقرار في الشرق الأوسط سيتحقق فقط بالتركيز على المشكلة الأساسية في المنطقة، مصدر عدم الاستقرار والعنف على مدى عقود...والمَظْلمة المركزية التي نستشعر آثارها في أرجاء الشرق الأوسط، بل وفي العالم كذلك. وهذه المشكلة تتمثل في الإنْكار المتواصل للحقوق الفلسطينية. وحتى نضع حدّاً لهذا الظلم، ستظل الأجيال الجديدة ضعيفة أمام رُعاة الكراهية والعنف... وسيفرخ النزاع نزاعا آخر، عاماً بعد عام.

إن الحلّ صعب - لكنه، يا أصدقائي، موجود. انه الحل الذي يقرّ بأن السلام لا يمكن فرضه بقوة طرف واحد، ولكن من خلال الشراكة والثقة، وهو يلبّي الحاجة الحقيقية للأمن والعدالة... للفريقين كليهما. وهو يتوافق مع الشرعية الدولية التي تدعمها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. والشروط واضحه قابلة للقياس: حلُّ يقوم على دولتين... يضمن أمن إسرائيل للعيش بسلام مع جيرانها... ويتيح، بعد هذه المدة الطويلة، إقامة دولة فلسطين السيدة القابلة للحياة والمستقلة؛ وهذا الحل هو الذي نادت به مبادرة السلام العربية، التي تم اعلانها أول مرة في بيروت عام 2002.

حان الوقت لتحريك السلام. ونحن بحاجة إلى شراكة عملٍ على المستوى العالمي، لتشجيع ودعم العودة إلى المفاوضات وإبقاء الفريقين في حالة حركة حتى يتوصلا إلى تحقيق نتائج. وعلينا أن ننهض إلى العمل الآن. فعامل الوقت حاسم. ومع كل يوم تأخير، يموت المزيد من الناس ويدمر مستقبل المزيد من البشر.

إن الشراكة من أجل السلام.... من أجل التنمية... من أجل التفاهم: تعكس جميعها روابطنا الانسانية المشتركة. فشعبانا، وبلدانا، ومنطقتنا، وعالمنا، سيشتركون في تقرير مصير الأرض. ويتوجّب علينا أن نجعل هذا المصير مستقبلاً مِلْؤُهُ الوعد، ونحن قادرون على ذلك.

في القرن العاشر، كتب الزبيدي، أحد العلماء المسلمين في الأندلس، قائلاً إن جميع الأراضي بتنوّعها واحدة، وإن جميع الناس إخوة وجيران.

وهو بهذا كان يردّد صدى أحد المبادئ الباقية على الزمن لديننا الحنيف، فالله تبارك وتعالى يقول في القرآن الكريم:

{يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}.

فلنعمل على معرفة بعضنا بعضاً واحترام واحدنا للآخر. فالدول والشعوب من أصحاب النيّات الحسنة يشكّلون تحالفاً قوياً. وبمشيئة الله، سيُكْتب لنا النجاح في عقد الشراكات وإحلال السلام.

وأشكركم جزيل الشكر.