كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل العشاء الذي تقيمه المنظمة الإنجليزية - العربية في الذكرى السنوية لتأسيسها

٢ تموز ٢٠٠٤

شكرا لك، يا نظمي، والشكر لكم جميعا على هذه الحفاوة المتميزة. ويسعدني أن أكون بينكم هذا المساء. أهنئك وأهنئ منظمتكم على جميع ما قمتم به لتعزيز الصداقة الإنجليزية - العربية، وعلى تشجيع الشبان العرب على أن يكونوا مواطنين عظيمي الشأن، وعلى ما نهضتم إليه من ترويج للحوار المفيد الهام.

إن للمنظمة الإنجليزية - العربية رسالة في منتهى الأهمية، في هذه الفترة المفصلية الحرجة. فنحن اليوم أحوج ما نكون أكثر من أي وقت مضى لتلاقي الشعبين البريطاني والعربي، والاحتفاء معا بقيمنا المشتركة، والعمل معا من أجل الازدهار والسلام.

لقد مضى عهد كانت فيه بلدان العالم معزولة بحق الواحدة عن الأخرى، قبل ظهور عصر الاتصالات الفورية والحراك العالمي، عهد كان فيه الشرق والغرب يعرفان بعضهما بعضا عن بعد فقط، وكان ما نعرفه نتعلمه في غالب الأحيان نقلا عن الآخرين.

في عام 1154 وصف الإدريسي عالم الجغرافيا العربي مكانا شماليا غامضا اسمه إنجلترا وكتب قائلا: " هذه جزيرة عظيمة... شكلها مثل رأس نعامة... وأهلها شديدو القدرة على الاحتمال، ذوو عزم وتصميم لا يلينان... وشتاؤها دائم مقيم". وهكذا ترون أن الروايات حول الطقس السيئ في بريطانيا، بدأ تداولها في القرن الثاني عشر.

حسنا، هناك اليوم المزيد من الفرص المباشرة كي يفهم بعضنا البعض. وقد كسب والدي الراحل جلالة الملك الحسين رحمه الله، أصدقاء هنا استمرت صداقتهم معه مدى الحياة. وكذلك كسبت أنا الأصدقاء. فقد فتحت أيامنا هنا عيوننا، كما قال والدي رحمه الله، على " عالم مختلف". وأعتقد أننا ساعدنا آخرين على أن يروا بعض تراث العالم العربي الذي نعتز به ويتفهموه.

أصدقائي..

إن هذه العُرى أساسية بالنسبة لنا جميعا. فزماننا حافل بالإمكانيات الهائلة، والعلاقات العالمية في أيامنا هذه - التجارة، الاستثمار، الاتصالات، التعاون - يمكن أن تساعد بلداننا على تلبية احتياجاتها المُلحة، من أجل الوظائف الجديدة والاقتصاديات المستقرة النامية، ومن أجل مزايا المعرفة الحديثة، ومن أجل الأمل. ولكن نظامنا العالمي ليس ولا يمكن أن يكون على مستوى واحد من الانسجام، فهو يعتمد على القوى الكامنة في كل منطقة، والحكمة المتجذرة في كل بلد، والإبداع المتأصل في كل فرد. وليس بوسعنا أن نتحمل كلفة سوء الفهم والفُرقة، إذ علينا أن نعمل في إطار شراكة قوامها الاحترام المتبادل.

في حقيقة الأمر، هناك أشياء كثيرة مشتركة بين الشعبين الأردني والبريطاني، فنحن نؤمن بسيادة القانون وحفظ كرامة البشر على قدم المساواة دون تمييز، ونريد الأفضل لأطفالنا: عالم من الفرص المتاحة والأمن. ونريد من هذا القرن الجديد أن يفي بالوعد ويحفظ العهد في تحقيق العدالة، والازدهار والسلام.

ونحن نقف معا في دعم السلام الدائم والشامل في الشرق الأوسط. وأنا أتحدث هنا عن فلسطين حرة، تتمتع بالسيادة، قابلة للعيش والاستمرار، ديمقراطية ومترابطة، وعن الأمن لإسرائيل لتعيش بسلام مع جيرانها، وعن عملية سلام تتيح تحقيق تسوية شاملة، تسوية تتناول أيضا المسارين السوري واللبناني. واليوم، خاصة، يقف الأردن وبريطانيا معا في دعم عملية سياسية قانونية شاملة في العراق، وحقبة جديدة من السلام والحرية لهذه الأرض التاريخية.

فالسلام، والحرية والتسامح، مُثل متجذرة بعمق في التقاليد الديمقراطية البريطانية، ولا أظنكم تجهلون أنها القيم الأعمق والأكثر إنسانية للعالم العربي، وهي نتاج موروث أدى إلى ظهور العصر الذهبي للإسلام - موروث الحضارة الإسلامية المتعددة الأعراق التي سجلت معالم تاريخية بارزة على طريق العلم النافع وتطور المجتمع المدني. واليوم، يعمل هذه الموروث العربي الإسلامي، على إيجاد حقبة جديدة من التقدم في الشرق الأوسط.

في الأردن، كما يعلم العديدون منكم، هناك برنامج مكثف للإصلاح موضع التنفيذ الآن، ونحن مصممون على مساعدة شعبنا على تحقيق أقصى إمكاناته في كل الميادين. ففي مجال الاقتصاد، شجعنا الإبداع والريادة، والدخول في شراكات مع القطاع الخاص. وفي التعليم، نعمل على تمكين الشباب للتنافس على المستوى العالمي. وفي القطاع العام، نعمل على تعزيز الالتزام بحقوق الإنسان، وتيسير تقديم الخدمات للجمهور، وإقامة حكم يتسم بالشفافية وبالخضوع للمساءلة.

ولأجندتنا هدف رئيسي بارز: هو تلبية توقعات شعبنا وحاجاته. ولكننا نؤمن أن مسيرة الأردن يمكن أيضا أن تُبين للآخرين ما الذي يستطيع أن يقدمه أنموذج عربي إسلامي هو نتاج بيئته المحلية الوطنية، وكيف يمكن أن يغدو مثل هذا الأنموذج قدوة تحتذى. وهذا أمر أساسي إذا ما أُريد لمنطقتنا أن تجد مسارا فعّالا يقودها إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والديمقراطية.

إن معظم العرب، في أيامنا هذه، متفقون على ضرورة الإصلاح. ونحن نتفق أيضا مع القائلين بأنه إذا ما أُريد للإصلاح أن ينجح، فإنه يجب أن ينبثق من داخل مجتمعاتنا. وقد ظهرت القيادات التي تحمل راية الإصلاح، فالمفكرون بصورة خلاقة، ورجال الأعمال المبدعون، والمهتمون بالقضايا الإنسانية، والذين لا يأبهون بالمجازفة، يفتحون أبواب أمل جديدة أمامنا. واعتقد أن أصواتهم المفعمة بالحياة والحركة، ستغرق دعاة السخرية والكراهية، الذين يخترقون عقول شبابنا وآرائهم.

إن صياغة مستقبلنا في العالم العربي، مسؤولية ننهض بها نحن ولا نكِلُها إلى غيرنا، ولكن أصدقاءنا في بريطانيا، وفي كل مكان لديهم الكثير، مما يمكن أن يسهموا به بصورة أساسية، والدعم العالمي أساسي في فض الصراع الرئيسي في منطقتنا، وهو الصراع العربي - الإسرائيلي. وحتى يأتي ذلك اليوم، فإن قوى التفرقة واليأس، ستتصدى للتقدم العلمي الإقليمي. وعندما تساعدون في تصحيح الأخطاء التي ارتكبت، وعندما تستثمرون في التنمية، و تشجعون الإصلاح، فإنكم تعملون على إيجاد مناخ للتغيير الإيجابي، وتخبرون الشباب دون خوف " إن العدالة العالمية أمر حقيقي - والنظام العالمي يمكن أن يعمل بفاعلية".

قبل سنوات عدة، وأثناء التحاقي بكلية ساندهيرست، رُويت لنا قصة عن المشير أليكساندر الذي اُشتهر في الحرب العالمية الثانية، حدثنا بها أحد أصدقائي، ليشرح لنا كما أظن ما يتحلى به البريطانيون بصورة تقليدية من عدم تحميل الأمور أكثر مما تحتمل. وخلاصة القصة أن المشير أليكساندر قام بزيارة قصيرة إلى لندن في الأشهر الأخيرة للحرب، وذهب إلى ناديه، حيث التقى هناك بالصدفة بأحد أعضاء النادي القدامى الذي يعرف المشير اليكساندر منذ أن كان هذا الأخير ضابطا شابا. بادر المشير بالقول " حسنا، حسنا، يا اليكس، لم أرك منذ عهد بعيد.. ما الذي كنت تفعله طوال هذه السنين؟"

والآن، فإن الشخص الذي وجه إليه هذا السؤال هو المشير اليكساندر، الذي ساعد على إنقاذ الجيش البريطاني في دنكرك، وقاد قوات الحلفاء في دخولها إلى تونس، وكان آمرا لفتوحات الحلفاء في صقلية وإيطاليا. ولكن عندما سأل هذا الرجل المهذب زميله في النادي " ما الذي كنت تفعله طوال هذه السنين؟"، أجاب المشير قائلا " ما زلت أقوم بأعمال الجندية". حسنا، إن عدم تحميل الأمر أكثر مما يحتمل ليست هي الرسالة الوحيدة التي تحملها هذه القصة. فأنا اعتقد أنها قد تعطي مثلا حيا للرجل الذي يعرف عمله.

أصدقائي،

ما زلنا اليوم نقوم بأعمال الجندية: نجهد كي يعمل نظامنا العالمي على بعث الأمل وإنهاء اليأس، وهزيمة الإرهاب وتجديد السلام. هذا هو عملنا، وهو ما يستحق منا الاهتمام الكامل. وفي مقدورنا أن نعمل على إيجاد عالم تزدهر فيه أحوال كل إنسان، عالم يتشارك فيه الجميع، في وعد هذا القرن. وهذا هو الأمل الذي يتطلع إليه الرجال والنساء في أرجاء العالم العربي، بل هو في الواقع حق لهؤلاء الرجال والنساء.

وبمشيئة الله، وبالإيمان بالإنسانية، وبإرادة جماعية للعمل، أعتقد أننا سنحقق النجاح.. متطلعا إلى مساندتكم.

وشكرا جزيلا لكم.