خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في مؤتمر ميونخ الأربعين حول السياسة الأمنية

٨ شباط ٢٠٠٤

أشكرك، سعادة البروفسور وأشكركم جميعاً على ترحيبكم الحار. إنه لمن دواعي سعادتي أن أكون بينكم في ميونخ مجدداً ويشرفني أن أساهم في هذه المنتدى.

إن موضوعنا، مستقبل الشرق الأوسط، وحوارنا في هذا الشأن يحملان أهمية خاصة. فقد بات الشرق الأوسط اليوم يتصدر الخطوط الأمامية، بل ربما كان هو ذاته الخط الأمامي لصراع عالمي من أجل تحقيق السلام والتنمية.

ينهمك العالم العربي وبطرق كثيرة في مشروع عظيم لحل الصراعات طويلة الأجل وتحقيق التنمية الحقيقية والإصلاح، والارتقاء إلى مستوى قيم عقيدتنا وتراثنا. وستؤثر نتائج هذا الأمر على العالم بأسره لذا نتطلع نحن إلى أصدقاء السلام والحرية لدعمكم وشراكتكم.

اليوم أود أن اقدم لكم تقريراً مقتضباً حول الوضع الراهن.

اسمحوا لي أن أبدأ بالتحدي الجوهري وهو إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي. قد يتساءل بعضكم إذا ما تابع عناوين الأخبار في المنطقة، حول هل ما زال هذا النزاع هو جوهر التحدي. دعوني أؤكد لكم، أن النزاع العربي الإسرائيلي يبقى مركزياً في المنطقة والعالم.لم يلق أي نزاع مثل هذه الظلال القاتمة على عالمنا، أو استغل لإحداث انقسام كالذي نشهده، أو عزز مثل هذه المرارة. آن الأوان كي نضع حداً لدوامة العنف الطويلة والبغيضة.

في الحقيقة، تلوح أمامنا ملامح تسوية تاريخية. تسوية تضمن إقامة دولتين، تتعايش فيها دولة فلسطينية مستقلة بسلام إلى جانب إسرائيل معترف بها وآمنة، ضمن حدود 1967. كما تعلمون، أقرت الجامعة العربية بالإجماع هذا الاقتراح، وأقرت تطبيعاً كاملاً للعلاقات بين الدول العربية وإسرائيل. والاتجاه الفلسطيني السائد يقبل بعدم جواز تأثير حق عودة اللاجئين الفلسطينيين على التوازن السكاني في إسرائيل. بينما يتفهم الاتجاه الإسرائيلي السائد عدم جواز احتلال شعب آخر.

عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية تقابلها عاصمة إسرائيلية في القدس الغربية. هذا هو طريق السلام الذي لا مفر منه. الأطراف المعنية تعرف ذلك والمتطرفون يعرفون ذلك أيضا، ويبذلون قصارى جهدهم لوقف التقدم إلى الأمام، ومع كل يوم تأخير هناك أذى يلحق بالمنطقة والعالم.

بالنسبة لنا في الأردن، نحن الأقرب إلى الأزمة في فلسطين. ومن مناطق معينة في بلدي يمكنكم رؤية أنوار القدس ليلا. وفي كل يوم، يشعر شعبنا بالمعاناة المستمرة ويعيش التأثير الإقليمي المدمر لهذا النزاع. لذلك كان الأردن ولا يزال قائدا في السعي من أجل السلام وتحمل في سبيل ذلك على مر العقود المخاطر التي يتطلبها السلام. ونحن ملتزمون بالمساعدة للتوصل لحل حقيقي.

لكن أيها الأصدقاء، ليس بوسع أي من الطرفين، أو جيرانهما، أو المنطقة، أن يفعل ذلك بمفرده. ولذلك فإن للمجتمع الدولي دوراً أساسيا. إن تحقيق العدل والسلام الدائم يستدعي مساهمة القيادة الفاعلة للولايات المتحدة الأميركية، وأكثر من ذلك، يتطلب تحالفاً دولياً جماعياً من أجل السلام. نشترك في التزام بالسلام والاستقرار، نشترك في احترام كرامة الإنسان وأمنه وعلينا الآن أن نشترك في القيادة لتحقيق هذه القيم. يمكن لتحالف كهذا، أن يضمن مستقبل فلسطين وإسرائيل، ويقوي دعائم السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ويعزز المصالح الأمنية للأمم الحرة في كافة أرجاء العالم. آن الأوان للعمل، كما آن الأوان للنجاح.

وهذا يقودني إلى تحدٍ إقليمي ثانٍ، آلا وهو تحدي التنمية. حيث تفيد التقارير أن الدخل للفرد الواحد قد تقلص في الدول العربية في العشرين عاماً الماضية. فواحد من كل خمسة من العرب يعيش على أقل من دولارين يومياً، وفي القوى العاملة، واحد من كل سبعة عاطل عن العمل. وأما الشباب، الذين يشكلون أكثر من ستين بالمائة من السكان، فهم الأكثر تأثراً، إذ أنهم عندما يفقدون الأمل، يصبحون لا مبالين أو يتحولون نحو العنف، وفي كلا المنهجين تهديد للتوجهات الإصلاحية والتقدم نحو الحداثة.

تتطلب مواجهة هذه القضايا جهداً عربياً جماعياً. وبالطبع أمامنا فرص تاريخية، تتضمن نظماً تعليمية تكرس نفسها للتميز، لحكم متفاعل شفاف، قطاع خاص نشط يمكنه استقطاب إمكانات المنطقة البشرية الهائلة، وبرامج إيجابية أخرى.

نعتمد على أنفسنا في صناعة مستقبلنا. لكن يمكن لأصدقائنا أيضا في كافة أرجاء العالم أن يقدموا مساهمة حيوية. عندما يشجع المجتمع الدولي المنهمكين منا في الإصلاح، وعندما يدعم التنمية فإنه يساعد على إيجاد مناخ من العدل والأمل وهو المناخ الضروري للأمن في المنطقة وفي العالم.

أصدقائي، الأمل ليس مادياً فحسب. يدفعني هذا لقول بضع كلمات عن ديننا الإسلامي الذي يشكل جوهر الهوية الأردنية. جلبت الأعوام الأخيرة حواراً جديداً في الغرب حول طبيعة الإسلام. إذ يعتقد البعض أنه محظور على المسلمين الانهماك البنّاء في العالم الحديث. لكن الأردنيين سيخبرونكم أن هذا غير صحيح. فمنذ بداياته، شق الإسلام مساراً يحترم التنوع، والتسامح وطرح أفكاراً جديدة، ومكّن أتباعه. هذا هو الإسلام الحقيقي وهذه هي القيم التي تجعل الأردنيين يتحدثون ضد الكراهية والتي جعلتنا من بين الأوائل الذين شجبوا أحداث الحادي عشر من أيلول بالمطلق ودون تحفظات وجعلتنا نسلك طريقا قياديا ضد التطرف والإرهاب.

يتشارك الأردنيون بموروث خاص: من أرضنا، من الشرق، تجذّر الإيمان بالله الواحد، الإيمان الموحد باليهودية والمسيحية والإسلام، وانتشر في كافة أرجاء العالم. أعتقد أن ما يتجذر حالياً في الشرق الأوسط يمكنه أن يؤثر على العالم أيضاً. إذا ما نجحنا، والنجاح يستدعي أن نعمل معا لينعم مليارات من البشر في كافة أرجاء العالم بوعد هذا القرن.

سعادة البروفسور،

أيها الأصدقاء،

لا يكتمل أي نقاش حول مستقبل الشرق الأوسط دون التطرق إلى آفاق الوضع في العراق. في هذا الشأن أيضاً، من الملّح أن يكسب أصدقاء الحرية السلام وهذا يتطلب أكثر من استبدال النظام القديم المتداعي. لا بد من وجود أمن مستدام، أمن يمكن العراقيين من حل كافة مشاكلهم بسلام. والموضوع الآن لا ينحصر فقط بسرعة إجراء انتخابات وإنما بكيفية بناء مؤسسات الحكم بشكل جيد، وفي المحصلة النهائية، فإن ما سيحدد النجاح هو المحتوى وليس سرعة التغير.

ولكوننا جيراناً للعراق، يقع على عاتقنا مسؤولية خاصة: أن نعمل كل ما في وسعنا وأن نساعد رجال ونساء العراق على تحقيق أسس تقرير المصير. هذا هو الطريق إلى مستقبل عراقي حر ومزدهر، مستقبل يمكن له أن يفيد العراقيين ويساعد على ازدهار الفرص في كل أنحاء المنطقة، إنه الطريق إلى المكانة التاريخية للعراق: بلد عظيم، زاخر بالمعرفة والفرص، ضمن أسرته العربية والشرق أوسطية.

لقد قطعنا شوطاً في هذا القرن الجديد، وهو كما قال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، قرن " قد دخل من بوابة نار". لكنه قرن يبشر بالحرية وحقوق الإنسان والعدالة العالمية والتنمية إذا ما اتخذنا الآن القرارات الصائبة.

على أولئك الذين يؤمنون بالسلام الوقوف معاً. وإليكم أقول: يمكنكم الاعتماد على الأردن فبينما نستمر بمحاربة الإرهاب، نعمل أيضاً على تقديم ما هو أفضل، إنه وعد الاعتدال والحرية والإصلاح. نحن نعمل من أجل أمل جديد، أمل في مستقبل يحفل بالازدهار والسلام. وبينما يتجذر هذا المستقبل ويزدهر في منطقتي، ستعم فوائده أرجاء العالم كافة.

مؤخرا وفي أحد خطاباته، قال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول: " نحن نحارب الإرهاب لأنه يجب علينا ذلك، لكننا نسعى لعالم أفضل لأننا قادرون على ذلك،" وإنني على ثقة أنكم جميعاً تتفقون معي، لأن طموحات الرجال والنساء في كل أرجاء العالم تكاد تكون متماثلة، وكذلك يجب أن تكون فرصهم. علينا أن نعمل الآن لتحقيق ذلك الوعد وأن نعمل معاً لمواجهة المجازفات والمخاطر الجديدة.

ومن أجل هذا كله، فإن الأردن يمد يده إليكم، فنحن نريد دعمكم، لكننا أيضاً نريد أن ندعمكم في المسيرة نحو أهدافنا المشتركة. لأن ما نواجهه، هو حقيقة، مصير مشترك، لكن الأهم، هو التزام مشترك للحرية والأمن والسلام.

أشكركم جزيل الشكر،،