كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في مؤتمر العمل الحادي والتسعين الدولي - منظمة العمل الدولية

١٢ حزيران ٢٠٠٣

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الرئيس

السيد المدير العام

أصحاب السعادة

أيها السيدات والسادة

أشكركم على ترحيبكم الكريم. من دواعي سعادتي أن أنضم والملكة رانيا إليكم اليوم لحضور هذا المؤتمر الهام تلبية لدعوة صديق عزيز، جوان سومافيا.

السيد المدير العام، إن جهودكم في تعزيز العمل الكريم، وتفانيكم في سبيل الكرامة البشرية، ورؤيتكم العالمية - قد أثارت الاحترام في كافة أرجاء العالم. اسمحوا لي أن أتقدم بالإنابة عن شعبي الأردني بالشكر لكم، ولكافة الوفود هنا، لكل ما تقدمونه من أجل تحقيق مستقبل أفضل للإنسانية.

أصدقائي،

تعترف منظمتكم بإحدى الحقائق الأساسية لعالمنا: أن العمل والأشخاص العاملين يحتلون قلب الإزدهار العالمي. وغالباً ما يتركز الاهتمام في القرن الحادي والعشرين على التقنية والأسواق، لكن علينا أن لا نغفل أنها في أفضل الأحوال، ليست سوى أدوات، أتاحت لشعوب العالم مزج طاقاتها ومواهبها. ولدى تحرير تلك القدرات أطلق العنان للإبداع والإنتاج.. وبوفرة لم يسبق لها مثيل. وتشير التقديرات في العالم كله إلى أن البضائع والخدمات التي أنتجت في المائة عام الماضية، وتحديداً في الخمسين عاماً الأخيرة، قد تجاوزت ما أنتجته الإنسانية منذ بدء التاريخ. إن إمكانيات المستقبل عظيمة.

لكن كثيرين، وكثيرين جداً، يرون في هذه الوفرة حلماً بعيد المنال. فقد همّش ثلثا البشرية بسبب البطالة والعمالة الناقصة، وآخرون بالكاد يسدون رمقهم. وهم يعانون من صعوبات وإختلالات ناجمة عن العولمة، ولم يحصدوا لغاية الآن أياً من منافعها. الشباب الذين في أمس الحاجة للفرص والأمل، يرون أنفسهم ومجتمعاتهم وقد كبح تقدمها الفقر، والأزمات الصحية، والأمية.. هل نستغرب إذن أن تصبح هذه المجتمعات مرتعاً خصباً للأيدولوجيات المتطرفة؟

لن يكون بمقدورنا التقدم..أو الوفاء بوعد القرن الواحد والعشرين، حتى نعالج هذه المشكلات. والأمر لا يحتمل التأجيل. أصبحت "الحرب ضد العوز " التي أثراها إعلان فيلادلفيا لمنظمة العمل الدولية - تحمل مسمى جديداً اليوم - "الحرب ضد الإرهاب". ليس بمقدورنا مداواة الانقسامات واليأس الذي يغذي الإرهاب العالمي إلا بالتغلب على العوز. يتطلب هذا تنمية اجتماعية و اقتصادية مستدامة، تنمية تحقق العيش الكريم لكافة الناس وتكون أداة هامة في المعركة ضد التطرف - كما ستحقق حلاً عادلاً للصراع العربي الإسرائيلي وقضية فلسطين.

يمثل توافر الفرص قوة فاعلة تمنح الناس نصيباً في مستقبل آمن. ويعود لنا أن نصنع اقتصاد النمو العالمي - الذي يمنح الناس فرص العمل التي يحتاجونها لإعالة أسرهم وتحسين حياتهم. لا بد من وجود شبكات آمنة - وطنية ودولية - يمكنها محاربة الإختلالات الاقتصادية والاجتماعية للعولمة، ومدخل للحصول على التعليم والتقنيات التي تفتح أبواب الغد، ولعل، ما يفوق هذا أهمية، العدالة - لتظهر للناس، خاصة فئة الشباب منهم، أن عالمنا الراهن يحفه العدل والأمل.

وقد عمل الأردن على تبني وتطبيق القيم الصادرة عن ميثاق منظمة العمل الدولية ومؤتمراتها المختلفة، كما تم ايلاء عناية خاصة لموضوع تعزيز إنتاجية القوى العاملة من خلال الإصلاحات التعليمية الواضحة ومن خلال إعطاء القطاع الخاص الدور الأساس في رسم برامج وخطط التدريب المهني. نحن مقتنعون بأن اقتصادنا الوطني لن ينمو حتى تنمو إنتاجية القوى العاملة في وطننا، هذا هو جوهر الأجندة الوطنية الاجتماعية الاقتصادية، وقد حققنا نتائج إيجابية كما هو واضح في مؤشرات النمو الأخيرة.

وقد أخذنا على عاتقنا حمل مسؤولياتنا الدولية بجدية. ويسعدني أن تكون جلالة الملكة رانيا واحدة من مجموعة تم اختيارها من رؤساء الدول والسيدات الأوائل، ممن عملوا بنشاط في منظمة العمل الدولية لمحاربة عمل الأطفال حول العالم. لقد عمل الأردنيون بجدية للتأكد من أن لا يصبح عمل الأطفال مشكلة خطيرة في بلدنا، وسنستمر في اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية.

إن لإستراتيجيتنا هدفاً واحداً فقط: تحسين الحياة وإتاحة الفرص لمواطنينا، فالأردنيون لا يستحقون ما هو أقل من ذلك.

نحن نؤمن أن الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية لا يمكن تحقيق استمراريتها في غياب الإجماع الديمقراطي. وهذا هو الذي جعلنا نؤكد على أهمية الإصلاحات السياسية وهي خطوة هامة لتأكيد الشفافية الحكومية والمساءلة. وقد أسس الأردن مؤخراً مركزاً وطنياً لحقوق الإنسان، إضافة إلى المجلس الأعلى للإعلام المتمتع بالاستقلالية. بهذه الطرق وبغيرها، عمل الأردن دون كلل لإيجاد بيئة تتصف بالعدالة، والديمقراطية، والقانون، وتكافؤ الفرص والمساواة بين الجنسين. وكما يعرف كثيرون، فإن الانتخابات النيابية ستتم في الأسبوع القادم.

أصدقائي،

لكن من الخطأ الإيحاء بأن بلدي، أو أي بلد آخر، يمكنه تحقيق الإنجازات منفرداً. اليوم، أصبح نجاح الدول المتقدمة والنامية على المستوى الوطني يتطلب تقدماً على المستوى العالمي أيضا. ويتطلب تحقيق مثل هذا النجاح شراكة حقيقية بين الدول المتقدمة والنامية - شراكة تقوم على مصالحنا المشتركة واعتماد كل منا على الآخر، ومسؤولياتنا المشتركة. شراكة كهذه وحدها ستوفر العدالة العالمية المطلوبة وستشجع الدول النامية على المباشرة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.

تواجه الشراكة العالمية الجديدة خيارات صعبة من اجل إعادة تشكيل أجندة الحكم الوطنية والعالمية و لتحقيق المزيد من العدل في توزيع الفوائد. يجب أن يقترن الحوار بالعمل، في كلا الجانبين. وعلينا جميعاً تحسين الوصول للأسواق، وإزالة العوائق التجارية والسياسات التجارية المتوقعة. يجب أن تزيد الدول النامية من مستوى تعاونها المباشر، وتشجع الاستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا، وتخفف أعباء المديونية. يجب أن تلتزم الدول النامية بسياسات اقتصادية سليمة، مقرونة بالشبكات الآمنة الصحيحة، وأساليب حكم سليمة، وسيادة القانون. في منطقتنا، وفي كل المناطق، علينا التعاون جميعاً وبسرعة لمعالجة قضايا أساسية - الحريات السياسية، تحسين دور المرأة، وتجسير فجوة المعرفةً.

يستضيف الأردن عما قريب الاجتماع غير العادي للمنتدى الاقتصادي العالمي..الذي سيجمع القادة الذين سيتفقون فيما بينهم على رؤية مشتركة للتعاون العالمي. آمل أن تشكل هذه المبادرات جهداً مكثفاً وجديداً، لإعادة الثقة في مستقبلنا المشترك، ولتعزيز أساليب الإدارة العالمية.

أصدقائي،

علينا كذلك مواجهة الحاجة الملحة لإعادة بناء ونشر الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط التي تقف على مفترق طرق خطير. ليست مصداقيتنا فحسب بل مصداقية المجتمع الدولي كله معرضة للخطر. آن الآوان لنحشد جهدنا كله خلف عملية تؤدي إلى تسليم مقاليد الأمور في العراق إلى حكومة عراقية ذات مصداقية وتمثل كافة فئات الشعب العراقي. وقد آن الأوان لتحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط.

لقد وقع الفلسطينيون والإسرائيليون على خارطة الطريق للسلام التي تعالج احتياجات الطرفين. فالخطة توفر للإسرائيليين الأمن الجماعي الذي سيضمنه العرب كافة، ومعاهدة سلام وعلاقات طبيعية مع الدول العربية، ونهاية للصراع. أما الفلسطينيون، فتضع الخطة حداً للاحتلال، وتمنحهم دولة قابلة للحياة، والوعد بالعيش كشعب حر.

في الأسبوع الماضي، وفي قمة العقبة، تعهدت الأطراف ببذل جهود حقيقية للتقدم وقد بدأت هذه العملية فعلاً. لكن على أصدقاء السلام البقاء على الدرب. وسنحتاج إلى كامل طاقات القادة في المنطقة والعالم، للعمل من أجل تحقيق شراكة حقيقية، إذا كنا سنحقق في المستقبل السلام، والأمن والتعايش.

في هذا المجال، أود أن أثني على تجمعكم لإعارته الاهتمام بعد ظهر هذا اليوم لوضع العمال المتدهور في الأراضي المحتلة. ليس هناك من حاجة ماسة أكثر من وضع حد لهذا الاحتلال.

أصدقائي،

قبل قرون، ظن البشر أن الأرض منبسطة ولم يتغير هذا الرأي إلا بعد قيام أشخاص شجعان باختبار حدود العالم المعروف.

اليوم، يستمر تردد صدى فلسفة الأرض المنبسطة القديمة، ونسمعها في أصوات المستسلمين الراضين بعالم ثنائي البعد، حيث تجلس أقلية بارتياح في المركز، تتمتع بالازدهار، وتبقى المليارات على الأطراف مرغمة على العيش في ظل الفقر والعنف.

أصبح المنظرون بأن الأرض منبسطة في طي التاريخ. وأعتقد أن المستقبل ملك لأولئك الذين يرون العالم في كل أبعاده - أفق غير منقسم، كل نقطة فيه مركز، وكل فرد فيه يمتلك حق الإزدهار والنجاح، في سلام وأمن.

هناك حكمة قديمة تقول "العمل يدل على الصانع". بعملنا، سيعرف المستقبل جيلنا. هل نحن ملتزمون حقاً بالسلام، والمساواة، والعدل؟ بأيدينا يمكننا أن نحقق ما نعتقده صواباً. ومعاً، كشركاء، وباحترام متبادل، أعتقد أننا قادرون.

شكرا جزيلا