خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي

١٢ حزيران ٢٠٠٢

السيد الرئيس

الحضور الكرام

أشكركم

فإنه لمن دواعي سعادتي مخاطبة البرلمان الأوروبي، هذا المأوى لتجربة تاريخية والتي بالرغم من نزاعات فظيعة واختلاف أمم منتسبيها في حضارات فريدة، حققت مجتمعة مستقبلاً للسلام، لست بحاجة لآن أخبركم أن ما تقومون به يعطي العالم دروساً.. فقد عبر جين مونيت الأب الروحي لأوروبا المتحدة عن ذلك ببساطة... قبل خمسين سنة عندما قال "نحن لا نوجد تحالفاً بين الدول بل نوحد ما بين الشعوب "لكن هذا بالطبع يتطلب مؤسسات وإجراءات جديدة تتطلب قبولاً عميقاً وعملياً لفكرة أن مستقبل الفرد يكمن في مستقبل الجميع. بدافع من هذه الفكرة نأت أوروبا بنفسها عن قرون من النزاع، لتجد طريقاً جديداً لحل الاختلافات والتقدم للأمام..كأمة واحدة.. بنيتم جسوراً حين أوجد الآخرون انقساماً وساعدتم على إعلاء صوت التفاهم.

وفي خضم نداءات الانعزالية وتوصلتم للشراكة.. في أوروبا كلها.. وتجاوزتم حدودها. وليس من المبالغة في شيء اليوم القول بأنه ليس لديكم شركاء أكثر أهمية من بلدان جنوب المتوسط. نكرس علاقتنا تاريخاً من التجارب والمصالح المشتركة ، فمنطقتنا هي مولد لتاريخنا المشترك بما فيه الثلاث ديانات التوحيدية العظيمة ، ولقرون مضت.. انضمننا لأوروبا فيما أسماه المؤرخ التاريخي المشهور فيرناند بروديل بالحضارات المتداخلة تجارة.. وعلوم.. واكتشافات.. وتبادل ثقافي، في هذه وطرق أخرى لا تحصى، بنينا عالمنا الراهن على أكتاف شعوبنا المتعددة، وإلى هذا اليوم تتشابك مصائرنا بعمق من خلال واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي، نتشارك بوعد القرن الحادي والعشرين.

ونتشارك في مجازفاته ومخاطره أيضاً والحاجة ملحة للتطور والعمل فشرور الإرهاب وتهديدات أسلحة الدمار الشامل واحتلال فلسطين مشاكل تؤثر فينا جميعاً ، لدينا خيار إذن، أما التقدم.. معاً.. للعثور على الحلول وتعزيز التطور وزيادة التفاهم.. وإنهاء النزاع أو السماح للأحداث والأزمات بأن تدركنا وتنتصر علينا.

أعتقد أن خيار هذا التجمع جلي للغاية وإذا ما راود أحدهم الشك بأهمية عملكم هذا دعوني أدعوهم للتفكير في ما كان يمكن أن يحدث في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول بدون قيادتكم.. ففي الوقت الذي كان يتربص فيه أعداء صداقتنا التاريخية لانتهاز فرص الإرباك والخوف أتاح النهج الحكيم الذي اتبعتموه لأممنا بتآزر ضد الإرهاب والتحيز، فقد تحدثتم بصوت واضح وقوي، ضد استهداف الأبرياء من العرب والمسلمين وأعربتم عن تصميمكم لإرساء التسامح والتفاهم والنجاح المشترك.

أصدقائي

إني هنا اليوم لأتقدم بالشكر لهذا التجمع على كل ما قدم وساهم فيه لمستقبل من السلام والازدهار لجميع شعوبنا، وأنضم إليكم هنا للتحدث حول ما علينا القيام به لمواجهة التحديات التي تتربص بنا. فالتحديات.. تحديات خطيرة وتتطلب كل قطرة من جهودنا معاً.. لمواجهتها.

أول التحديات أمامنا هي المحافظة على تحصننا ضد اللامبالاة فعندما يخبو تأثير رعب الحادي عشر من أيلول يصبح من السهل جداً العودة لإطلاق الأحكام العمومية والتصورات الخاطئة، دعونا نجدد تعهدنا بأن لا نتيح للانتهازيين فرصة لإثارة حرب بين الحضارات ، فيجب أن لا يسمح في الغرب أو في العالم العربي بمعادلة الإسلام بالإرهاب والأكثر من هذا.. علينا التأكد من أن شعوبنا تدرك وتتفهم قيمنا المشتركة والمنافع الهائلة لشراكتنا.

وينطبق هذا أيضاً، بالمناسبة، على أصدقائنا عبر الأطلسي فعندما تتكون الأفكار الخاطئة عن أمريكا في أوروبا أو العكس، وتتكون أفكاراً خاطئة حول العنف من قبل الغرب تكون الخسارة للجميع فكفاحنا..موجه للمستقبل كفاح يحتاج لمساهمة كل الأطراف. ويعني هذا استمرار الحوار العملي والتعاون، وأكثر من هذا كله يعني التحدث بوضوح وبقوة حول المبادئ التي نتبناها.. وهي.. الديمقراطية والحرية واحترام التنوع وتكريم الفرد والحضارة التي يمثلها أياً كانت.

تحدينا الثاني من حيث عظم الأهمية هو في فتح الأبواب للازدهار والأمل لشعوبنا جميعاً. اليوم.. نصف سكان العالم العربي هم دون سن الثامنة عشرة فشعوبنا اليافعة ..مثل شعوبكم..تسعى لتكون جزءاً من القرن الواحد والعشرين، لكن الكثير منهم يشعر بالإحباط ولا يدرك ما يجعل هذه الحقبة واعدة.. الاختراعات والمعرفة الجديدة، الاستخدام المنتج، وتحسين مستوى المعيشة. عديدون يرون انقساماً عصياً على التجسير بين الغرب الثري والعالم الآخر انقسام يوفر أرضاً خصبة لتنامي الغضب والصراع من هنا يضطلع المجتمع الدولي بمسؤولية مساعدة العقول اليافعة لترى ترسيخ العدالة وأن لا تنتظر تأخر إحلالها وعلى أوروبا القيام بدور خاص من خلال شراكاتها بأن تمنح الشباب فرصة للأمل.

كان الأردن دولة المشرق الأولى التي وقعت اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، تلك الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ الشهر الماضي وشملت أهدافها تحرير مستمر للتجارة في البضائع والخدمات ونمو رأس المال ـ كلها محركات رئيسة في النمو الاقتصادي وإتاحة الفرص. نعمل في هذه الجهود وغيرها معاً لتوفير حياة أفضل لشعوبنا ولإيجاد ازدهار اقتصادي مشترك، وتأتي إقامة منطقة تجارة حرة بين الأردن ودول الاتحاد الأوروبي، بحلول عام 2010 كخطوة هامة من أجل تحقيق ذلك ، فأوروبا هي شريك الأردن التجاري الأول وأسواقكم توفر حوالي ثلث مستورداتنا، لكن ما يدخلها من صادراتنا يقل عن أربعة بالمائة من صادراتنا. ولتحسين فرصنا الاقتصادية ونمو التجارة بيننا، علينا إيجاد السبل لعدد من القضايا المتعلقة بذلك.

إننا ممتنون لدعم الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الانتقالية ويسعدني أن أبلغكم أننا حققنا نجاحاً كبيراً في تحرير هيكلة اقتصادنا وبدأنا نشق مساراً جديداً في منطقتنا، مسار يمكن للقطاع الخاص فيه أن يصبح مساهماً كاملاً وتكون فيه التجارة مفتوحة وحرة ويتدفق من خلاله الاستثمار الخاص، والأهم من هذا.. نحن نستثمر في تنمية مصادرنا البشرية بما فيها رفع مستوى التعليم والتدريب. الإصلاحات التي تحدثت عنها إضافة لغيرها، بدأت بالفعل بإيجاد تحولات اقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية كبرى، فبدأ الأردن يشكل نموذجا.ً ونعتمد على دعمكم المستمر للتأكد من أن نموذجنا يقود الطريق ، وفي إحدى النواحي الهامة والمتعلقة بثقل عبء المديونية التي كبحت إمكانياتنا في التميز نحتاج لدعمكم الفوري في تخفيف هذا العبء. وفي الحقيقة.. وعلى الرغم من خطوات بلدي الجريئة ونجاحاته الهامة تستمر حقيقة أخرى في تعريض جهودنا للخطر ألا وهي غياب السلام في المنطقة.

في العام الماضي نجح الأردن في تحقيق نمو اقتصادي بلغ 2ر4 بالمائة من ناتجه المحلي الإجمالي، ولكن الوضع الإقليمي يكلفنا على الأقل واحد بالمائة سنوياً من معدلات النمو، ويستنزف هذا الكثير من الأولويات الوطنية، وبلدنا ليس وحده المتأثر بهذا. دعوني أقول بوضوح لن نشهد قط شرق أوسط مستقر ومزدهر حقاً، ولن نشهد الأمن الاقتصادي والسياسي، ما لم يتم إيجاد حل للوضع الفلسطيني الإسرائيلي، ويحملني هذا للتحدث عن تحدينا الثالث وهو إنهاء النزاع العربي ـ الإسرائيلي .. وإنهائه الآن ، فقد مر خمسة وثلاثون عاماً تحديداً على وضع خطوط وقف إطلاق نار حرب عام1967، والتي تركت الضفة الغربية تحت هيمنة الاحتلال الإسرائيلي، وسلبت حرية آلاف الفلسطينيين الأبرياء، منذ ذلك الحين كتبت عقود من المفاوضات سجلا مؤسفاً على صفحات كتب التاريخ، شهدنا تقدم خطوات للأمام ، وشهدنا أيضاً إنجازات هامة لكننا لم ننعم بالسلام ، وفي الوقت ذاته ولدت أجيال من الطرفين في خضم النزاع ويزيد الوضع خطورة إحباط الحرب والاحتلال والحرمان الاقتصادي.

هذا الجرح القبيح يمنع تقدم الشرق الأوسط، ويشعل نيران التطرف في العالم كله، آن الأوان لإحلال سلام جوهري يجد صداه لدى الفلسطينيين والإسرائيليين، فالآن وأكثر من أي وقت مضى تحتاج الشعوب لرؤية النتائج، أمن حقيقي، واستقلال فعلي ومستقبل.. وأمل.. وتحقيق هذا يتطلب تركيزاً على أهداف ومبادئ السلام وتخطيطاً يرسم إطاراً زمنياً معقولاً لتحقيق تلك الأهداف. أعتقد أن عناصر الحل متوفرة وفي مؤتمر القمة العربي الأخير في بيروت وضعت الدول العربية رؤيا جديدة للسلام، تعترف بوضوح بمصالح إسرائيل، وفي الآن ذاته تلبي آمال الفلسطينيين، الآمال بالعيش الحر بدون احتلال، في دولة ذات سيادة، تشمل حدود الضفة الغربية وغزة، وتكون عاصمتها القدس الشرقية، وتتميز هذه الرؤيا العربية بتوازن قوي من خلال اتفاق سلام مع الدول العربية تحصل إسرائيل من خلالها على الأمن، الذي تتوخاه وعلى مطالبها بالحفاظ على هويتها وأمنها والاعتراف الدولي والقبول العربي والمستقبل الآمن وفي الآن ذاته تحصل الدول العربية على مطالبها الأساسية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية كله، ضمان الاستقلال، والحرية، والكرامة، والمساواة والأمن للفلسطينيين وحل متفق عليه لمسألة اللاجئين .

من خلال هذه المبادرة يوجه العرب دعوتهم للمواطنين الإسرائيليين كجيران يستحقون العيش بكرامة وأمن وسلام وليس بمقدور الحكومة الإسرائيلية تجاهل هذا العرض، وأعتقد بكل تأكيد أن معظم الشعب الإسرائيلي يصغي، فعلى الرغم من الوضع الصعب، يؤمن أكثر من نصف الشعب الإسرائيلي بأن إنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات سيحقق السلام و57 بالمائة من الإسرائيليين ردوا إيجاباً في استطلاع للرأي إزاء مبادرة السلام العربية ، لكني على أي حال أعلم أن النجاح يحتاج لعمل دولي ، والحقيقة هي.. وفي ضوء الأوضاع الراهنة لم يعد بمقدور الفلسطينيين والإسرائيليين اتخاذ خطوات توصلهما إلى تسوية نهائية مقبولة، يجب أن لا نسمح للعملية بأن تصبح رهينة أهواء أولئك الذين يختارون إعاقة السلام.

اليوم.. نحن في أشد الحاجة لأخذ دور الريادة... في الشهر الماضي، وفي الولايات المتحدة طالبت بإقامة تحالف سلام جديد من أجل الشرق الأوسط تحت مظلته يقوم تحالف دولي يتألف من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والعرب وبلدان أخرى ويوفر الدعم الأمني والسياسي والاقتصادي للفلسطينيين والإسرائيليين، ويحظى بالقيادة الأخلاقية والسياسية لإقامة سلام شامل وعادل ودائم. هذا وحده يمكنه إقناع الشعوب المنهكة من الطرفين.. لتثق بطريق السلام.

أصدقائي

يضطلع هذا البرلمان بدور هام وتاريخكم الحافل في الخروج من نزاعات القرون، يمكنه أن يوفر نموذجاً لأولئك الواقعين في فخ دوامة العنف الراهنة، وتكتسبون الخبرة والمعرفة اللازمة لحل المشاكل عن طريق الحوار والتفاعل، أصول يمكنها مساعدة الآخرين في تعلم طرق جديدة تعالج الاختلافات التي تفرق بينهم وربما يكون الأكثر أهمية كممثلين للشعوب.. أن تكونوا الأقرب إلى من يتعرض مستقبلهم للمخاطر، إذ من هم الأكثر استفادة من عالم يسوده السلام ويعمه الرخاء؟ ومن بالتالي يعاني أكثر من عالم يعصف به العنف.. من أكثر من هذه الشعوب المتصارعة ؟

لأولئك الذين يشككون في نجاحنا أعود للاقتباس من الأب الروحي لأوروبا... جان مونيت والذي قال "عندما يحدد المرء هدفه عليه العمل دون افتراض المجازفة بعدم النجاح ما لم تكن قد مارست أمراً لا يمكنك أن تصفه بالاستحالة.." اليوم أعلم أن السلام ممكناً لكن تحقيقه غير ممكـن مـا لم نعمل معا، يمكننا إيجاد مصير جماعي يمنح الأمل لشعوبنا كلها.. لكن دعونا نعمل الآن وليكن عملنا حاسماً وليكن عملاً حقيقياً ليس من أجل غد مشرق لأطفالنا فحسب لكن لغد مشرق لنا نحن أيضاً.. أشكركم شكراً جزيلاً...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته