خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في المنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط

١٨ أيار ٢٠٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

البروفيسور شواب،

أصحاب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة،

أعضاء المنتدى الأفاضل،

عندما يكتبون التاريخ، ربما يكون العام 2008:

  • هو عام ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة...
  • ونقطة النهاية لنزاع امتد على مدى الستين عاماً الماضية ...
  • وبداية موقف عالمي جديد تجاه الشرق الأوسط بمجمله.

أصدقائي،

إن هذه الأهداف هي أكثر من مجرد رؤية. فبعد سنوات من الجمود، أصبح التقدم ممكناً. فقد وفرت مبادرة السلام العربية الأساس لتحقيق تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال هذا العام. ولهذا، فالسلام يحظى بدعم عالمي الآن.

كما أن الوقت اليوم أساسي وجوهري. ومن الأهمية بمكان أن لا ينتهي العام 2008 كما انتهى عام 2000 بإنقطاع مسيرة التقدم، وبإنهيار أفق الاتفاق، وما تبع ذلك من سنوات العنف التي اتسع نطاقها.

ولذلك، فعلينا أن نسأل أنفسنا: أين كنا سنصل اليوم لو كانت هذه السنوات الثماني الأخيرة سنوات سلام واستقرار؟

  • ... ماذا لو كان هناك، طوال هذه المدة، دولة فلسطينية ذات سيادة تتقدم وتزدهر؟
  • ... ماذا لو لم تكن لدى المتطرفين والقوى الخارجية هذه القضية ليستغلوها لأغراضهم؟
  • .... ماذا لو أن المستثمرين العالميين والعاملين في مجال الأعمال تمكنوا من التوجه نحو منطقتنا بثقة أكبر؟
  • ... ماذا لو غدا الشرق الأوسط فعلاً مصدر القوة الاقتصادي المُوَحد، وهو الأمر الذي كان يجب ان تحققه المنطقة وتستطيع أن تحققه، لتغدوا مجتمعاً إقليمياً، يُسرع النمو، ويُنهي الفقر، ويوجد الوظائف، ويؤمن المستقبل الذي يُعد له شبابنا بكل قوة وعزم؟

فلنعمل إذا على أن لا نقف هنا ثماني سنوات اخرى، أو حتى سنة واحدة، ونحن نفكر ونقول: "لو أن"، ذلك أنه يمكننا أن نبدأ في بناء مستقبل مختلف الآن.

وعلينا أن نتذكر هنا أن المستقبل يبدأ برفع ظلال النكبة. فاحتفالات الاستقلال تظل جوفاء ما دام السلام الدائم لم يتحقق بعد بسبب الأخطاء التي لم يتم تصحيحها على مدار السنين. أما الاحتفال الحقيقي فسيكون هو ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الفلسطينيون والإسرائيليون فقط أن يقولوا: "إننا أحرار... نشعر بالأمن والأمان... وقد أصبح الماضي خلفنا".

إن القادة في الجانبين يعدون شعوبهم بأنهم لن يتخلوا عن حقوق بلدهم. لكن عليهم أن يخبروا شعوبهم أيضاً بما يؤمن هذه الحقوق التي لن تتحقق الا من خلال تسوية يتم التوصل إليها عن طريق التفاوض مع كل خياراتها الصعبة. وليس هناك طريقة لتحقيق هذه الغاية سوى هذا السبيل. فلن يجدي نفعاً العملُ المسلح، ولا العمل من جانب واحد، ولا الجدران العازلة. فالقوة والعزل يحققان سلاماً خادعاً - والسلام الخادع يؤدي إلى أمن خادع. وبعد ستين عاماً، آن الأوان فعلاً لإيجاد أساس جديد للمستقبل، أساسٍ يقدر حاجات الجميع.

وبالنسبة للفلسطينيين، فإن مثل هذه الاتفاقية تَعِدُ باستقلال حقيقي: دولة لها مقوماتها الذاتية... وأراض مترابطة ومتماسكة في إطار حدود ذات سيادة... دولة قادرة على إيجاد حياة اقتصادية مثمرة... وتنمية وطنية مستدامة آمنة.

وبالنسبة للإسرائيليين، فإنها توفر أمناً حقيقياً: نهايةً للنزاع... وعلاقات من الاحترام والتعاون في أرجاء المنطقة.

إن إنهاء هذا النزاع سيكون له أثر عالمي. ففي هذه المنطقة، سيغدو السلام مفتاحاً للتصدي لتحديات أخرى، أوجدتها وفاقمتها القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية. ففي لبنان، يحملُ التصعيدُ الحالي معه مخاطر جسيمة بتفجر الصراع الطائفي ويجدد المخاوف من اندلاع حرب أهلية. والشعب اللبناني يُجبر على دفع ثمن تدخل القوى الخارجية. فمن الأهمية بمكان أن يتخذ اللبنانيون قراراتهم بأنفسهم وأن يتوصلوا إلى حلول لخلافاتهم بعيداً عن التأثيرات الخارجية.

أصدقائي،

مهما قلنا، فلن نكون مبالغين في وصف الكُلفة الباهظة للنزاع الإقليمي حتى ونحن نمضي إلى الأمامً. إن هذه القاعة مليئة بقصص النجاح التي تقدم الدليل على القدرة الهائلة لشعوبنا. فالعديد منكم قام بأدوار قيادية رائدة في بيئة مليئة بالتحديات لمساعدة منطقتنا واقتصاداتنا على تحقيق التقدم. وهناك حقيقة عالمية تنطبق على هذا الوضع مفادها أنه كي يتمكن المواطنون في مناطق النزاع من تحقيق المكاسب في وجه العوائق القائمة، فعليهم أن يعملوا بجد أكبر، وأن يخاطروا بدرجة أكبر أيضاً مقارنة في بأولئك الذين يعيشون في مناطق يعمها الاستقرار والسلام.

علينا أن لا نقبل بهذا الضيم. وهذا العام سنعمل، بمشيئة الله، على تغيير وضعنا في هذه المعادلة.

إن الشرق الأوسط يتمتع بموقع استثنائي يتيح له المضي قُدُماً. فالطلب المتزايد عالمياً على الطاقة جلب معه سيولة مالية وفيرة؛ وهذه الموارد تبني على الأصول والموجودات الإيجابية الأخرى في منطقتنا حيث هناك سوق تضم 250 مليون مستهلك وتقاليد عريقة في ممارسة الأعمال والتعلم ومجتمعات شابة لها تطلعات كبيرة وتتمتع بوعي عالمي.

ونحن بحاجة إلى أن نقوم بكل ما نستطيع لاستثمار هذه الأصول والموجودات لتحقيق النمو في اقتصاداتنا. وهذا سيقدم إسهاماً مباشراً ذا شأن لمستقبلنا، بحيث يرتفع معدل دخل الفرد ويرتقي بمستوى المجتمعات الفقيرة ويتيح الفرص أمام جيل الشباب ويعمل على إيجاد منبر لمنشآت الأعمال لدينا كي تتمكن من المنافسة عالمياً.

كما أنه من الضرورة بمكان أن يتم الاستثمار في الإبداع. فللشرق الأوسط خبرته الممتدة في القضايا التي بدأ القلق يساورُ مناطق أخرى حولها قبل فترة وجيزة فقط من شح المياه إلى الطاقة المُستدامة. وعلى شركاتنا أن تكون على رأس هذه الصناعات التي بدأت بالظهور، باعتبارها المصدر الرائد للحلول الخلاقة الناجعة.

وفي جميع هذه المجالات، يمكن للحكومات أن تقوم بالكثير لإزالة مُحددات النمو، والاستثمار في قوةٍ عاملة مُنافِسَة وتشجيع الأعمال الجديدة والمناطق الخاصة للأعمال.

ففي الأردن مثل جيد على هذا الأمر حيث أنشئت منطقة العقبة الاقتصادية، كما تنتشرُ الآن في مناطق مماثلة في أرجاء الوطن. والتعاون الإقليمي أساسي أيضاً حيث تلعب العلاقات الجديدة والإتفاقيات التي يحتاجُها السوق الإقليمي الحقيقي في إحداث تقدم.

لسنا في وضع يسمح بالاسترخاء لنا في بذل هذه الجهود؛ فنحن بحاجة إلى توسيعها. ومرة ثانية، فإن لدى الأردن والعديد من البلدان الأخرى في منطقتنا مبادرات قائمة لتحقيق ما هو مطلوب. ففي العام الماضي، قامت القوات المسلحة الأردنية بالتعاون مع العديد من مؤسسات القطاع الخاص بالعمل معاً لإيجاد برنامج فريد للتدريب الوظيفي في قطاع الإنشاءات المزدهر. وقد حصل المتدربون الشبان على رواتب ومزايا تعادل ما يحصل عليه المجندون العسكريون وعلى وظائف في نهاية مرحلة التدريب.

وفي هذه الجهود كلها ليس هناك بديل عن الدور النَشِط للقطاع الخاص. ولا يمكن لبلداننا أن تنتظر من النمو الاقتصادي حل لجميع مشكلاتنا، حتى ولو تمكن من ذلك. فما نحتاجه الآن، هو أن نعمل على جمع افكارنا ومواردنا معاً لتحديد اطر للعمل تضع بلداننا في موقع تتمكن فيه من النجاح.

وهذا يعني شراكات تنموية موجهه ومُركزة ومبادرات مشتركة بين القطاعين العام والخاص في التعليم، والصحة، والبُنى التحتية، وكثير غيرها. ولدى منشآت الأعمال أدوات عظيمة في مجال الإدارة، يمكن أن توفرها مثل المرونة في سرعة الحركة، ومدخل للاستفادة من القدرات والموارد العالمية، وأخيراً وليس آخراً القدرة على توجيه الموارد والعاملين نحو الحاجات الملحة.

إن الربط بين الأعمال والتنمية يقع في ذلك المجال الذي بات يعرف بالمسؤولية الاجتماعية للشركات الكبرى. وهناك مَن يرى في هذه المسؤولية مجرد تعبير جديد عن عمل الخير والإحسان، أو نوعاً من العلاقات العامة. ولا أعتقد أننا في الشرق الأوسط يمكن أن نرتكب مثل هذا الخطأ في أي وقت. فالتنمية الشاملة عمود أساسي في مستقبلنا الاقتصادي، وهي أساسية لنجاح كل مجال من مجالات الأعمال. وكلما عملنا معاً بفعالية أكبر، فإننا نتمكن من تسريع إحداث التغيير في أنماط الحياة وبناء الاستقرار وإيجاد المستقبل الذي يستحقه شعبنا. إنها مسؤولية أخلاقية، إنها مسؤولية إنسانية، وهي مسؤولية القطاع الخاص أيضاً.

أصدقائي،

لقد قيل إن الرجل العظيم يصنع فُرصاً أكثر مما يُمنح. وفي اجتماعاتكم هنا في المنتدى آمل أن تعملوا على خلق العديد من الفرص الجديدة، لإحداث التقدم في مستقبل بلدانكم والمنطقة.

فالأمر يبدأ من الأعلى، لدى الرؤساء التنفيذيين في مجال الإدارة والرؤساء التنفيذيين في قطاع الشؤون المالية. والنجاح يعتمد ايضاً على أناس من جميع المستويات، من الخبراء الميدانيين إلى المتدربين الجدد. وفوق ذلك كله، لنعمل على الاستثمار في شبابنا، والعمل معهم، والاستماع إليهم، وتقصي ما لديهم من طاقات لإطلاقها، واحترام آمالهم.

لقد كان شرفاً كبيراً لي أن أنضم إليكم في هذا المنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط. واسمحوا لي ان اشكر الرئيس مبارك والحكومة المصرية على استضافة هذا المنتدى وعلى حسن الضيافة التي أظهروها لنا.

وموضوع هذا العام هو التعلم من المستقبل. وأعتقد أن أحد الدروس الأكثر أهمية ضمن تلك التي تعلمتها، هو أن الغد لن يكون لنا لنشكله... إلا إذا بدأنا في بنائه،ِ اليوم. ومعاً، أمامنا فرصة لنجعل الحياة أفضل لملايين الناس - من خلال التعايش والتآلف، ومن خلال التنمية الاجتماعية والسياسية، ومن خلال الفرص الاقتصادية الحقيقية. وكل تقدم نعمل على إحداثه الآن سيتضاعف مرات ومرات عندما يحل السلام.

ولهذا، فعلينا أن نستعد بكل طاقاتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.