خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام منتدى قادة العالم في جامعة كولومبيا
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الرئيس بولينغر
أصدقائي،
أشكركم جميعا على استقبالكم الحار، ويسرني أن أزور هذه الجامعة الرائدة من جديد. ومن دواعي سروري أن أشارك في منتدى قادة العالم، خصوصا في هذا الوقت الذي يعد في غاية الأهمية بالنسبة للمنطقة التي أنتمي إليها.
وكل المجتمعين هنا محظوظون بانتمائهم لمركز التميز هذا، ولا يوازي القيادة الفكرية التي تتميز بها جامعة كولومبيا إلا وعيها التام بالتحديات التي تواجه بقية العالم والتزامها بالتواصل مع نظيراتها في الشرق الأوسط.
لي... رجل قليل الكلام كثير الأفعال الخيرة، وهو يضع قيمه في واجهة وقلب كل قرار يتخذه، وقد عمل مع قيادة هذه الجامعة بشكل وثيق مع الملكة رانيا لتأسيس مركز أبحاث الشرق الأوسط في عمان كمؤسسة حديثة متميزة. ويتعاون الباحثون والطلاب مع أكاديميين أردنيين في تنفيذ مبادرات استشرافية، فيما يعمل خريجو كولومبيا في مواقع حيوية في كافة أنحاء البلاد. وتعد هذه الشراكات ضرورية جدا في بناء جسور التفاهم بين بلدكم وبلدي.
يقول مثل كان يردده سكان أمريكا الأصليون: "تحتاج إلى ألف صوت لرواية قصة واحدة".
وهناك الآن في العالم العربي ليس آلاف بل ملايين الأصوات التي تروي للعالم قصتها، قصة الطموح والكفاح وعدم الرضا عن الماضي والحلم بمستقبل أفضل.
ويبرز من هذه الأصوات ثلاث مجموعات متمايزة:
أولها العاطلون عن العمل. صحيح أن البطالة مشكلة دولية، ولكنها ليست في أي مكان في العالم بالحدة التي هي عليها في منطقتي، وخصوصا بالنسبة للشباب الذين يشكلون أكبر جيل يافع في تاريخنا، وأغلبية السكان. واليوم يعاني الشرق الأوسط من أعلى نسبة بطالة في كل مناطق العالم، حيث يوجد أكثر من واحد من أربعة بدون وظيفة كريمة، ويفوق المعدل ذلك في بعض الأماكن. وهؤلاء يقولون: نريد تطبيق المساءلة ونريد حكومة تستجيب لاحتياجاتنا. يجب أن يكون صوت هؤلاء مسموعا.
والمجموعة الثانية هي أصوات النساء والفتيات. وهؤلاء مصدر مهم للأفكار والطاقة الخلاقة في المنطقة برمتها، ولكنهن يرزحن تحت غطاء ثقيل من الأعباء، توقعات المجتمع منهن والتمييز والتحيز ضدهن، وهي أعباء قد حدت من خياراتهن ومساهمتهن. ومع ذلك نجد أن النساء يقفن في الخطوط الأمامية في حركة الإصلاح العربي، وكنا نشاهد وجوه النساء والفتيات في مقدمة الصفوف في ميدان التحرير ومواطن أخرى، حيث يطالبن بحكومات منفتحة شفافة. ورسالة هؤلاء النساء لنا هي: نريد أن نحقق إمكانياتنا كمواطنات وكقائدات. ويجب أن يكون صوتهن مسموعا.
أما المجموعة الثالثة فهي أصوات المهمشين، من كبار وصغار ورجال ونساء، بغض النظر عن الطائفة والمكانة الاجتماعية، ممن استبعدوا عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذه الفئة من الناس تضم الفقراء والمحرومين من الخدمات الكاملة والمعزولين والمهملين. وهؤلاء يقولون لنا: أعطونا العدالة الاجتماعية، وأعطونا دورا نمارسه في بلادنا بكل ما يترتب على ذلك من حقوق ومسؤوليات. ويجب أن نصغي إلى هؤلاء أيضا.
الربيع العربي هو البداية بالنسبة لمنطقتنا. ولكنه ليس إلا البداية، فالمطالبة بالإصلاح هي الخطوة الأولى، أما التنفيذ فهو أمر مختلف، وأصعب بكثير.
والتغيير عملية وليس موقفا. وتأكدوا أنها ليست عملية متجانسة، بل يحددها كل بلد حسب تاريخه وظروفه وتحدياته الخاصة به.
فأمام بعض الدول العربية قائمة من المهام الجسام احتاجت دول أخرى إلى أجيال لحلها. كيف يمكن لهم أن يتعاملوا معها؟ وما هي الإجابات على ما تطرحه من أسئلة؟
لست على يقين، ولست وحدي في ذلك. والحقيقة أن العام المنصرم اتسم من ضمن ما اتسم به بحالة من اللايقين: الأمور الكبيرة الغامضة في مستقبل منطقتنا والتي يتردد في التنبؤ بها حتى أكثر الخبراء اطلاعا.
ولكن إليكم ما أعلمه يقينا: إن الفشل في تحقيق التغيير هو خسارة للجميع، فبدون الإصلاح تتراجع قدرة بلادنا أكثر فأكثر على تلبية مطالب الناس بمستقبل مزدهر آمن يشارك الجميع في بنائه.
لقد ظل التزامي بالإصلاح راسخا لا يتزعزع منذ حظيت بشرف خدمة الأردن من موقعي. لقد شهدنا بعض النجاحات الحقيقية، ولكننا رأينا أيضا مقاومة ومحاولات تعطيل. ولم تكن النتائج دائما بمستوى الطموح. ونحن في مواقع من المسؤولية التي يجب أن يصاحبها تحمل جزء من اللوم. أعطوني قائدا واحدا يدعي أن كل قرار اتخذه كان صائبا، وسأثبت لكم أنه شخص منفصل عن الواقع. وأعتقد أن الشرط الأساسي لنجاح أي شخص يسعى لخدمة الآخرين هو أن يدرك أنه من البشر وبالتالي فهو غير معصوم عن الخطأ.
ومما لا شك فيه أن حقبة الاضطرابات قد زادت من صعوبة سبر طريق الإصلاح. لقد عاش الأردن اثنتا عشرة سنة مرت سريعة، شهد فيها انتفاضة في الضفة الغربية وهجمات الحادي عشر من أيلول وما تلا ذلك من حرب في أفغانستان وغزو العراق.
وهناك المزيد: حرب في لبنان وحرب في غزة.
والمزيد: سنوات من الأزمة الاقتصادية العالمية أصابت قطاعات ذات تأثير مباشر في حياة الناس، وهي الغذاء والطاقة والتمويل والنمو والعمالة.
واليوم نقف حيث نحن. بالنسبة لي، فإن الربيع العربي يجلب معه الفرصة لتحقيق الإصلاحات الحقيقية التي كنا نسعى لها، وقد دفع بزخم كبير نحو العمل مما أدى إلى تولد فرص جديدة لتحقيق نتائج ملموسة. أما في الأردن، فإننا نأمل أن يكون الطريق نحو التغيير ثوريا وتوافقيا في الوقت ذاته، ونريد العمل يدا بيد لتحديد الأولويات الوطنية وتكريس الظروف المناسبة للوصول إلى مستقبل أفضل: حاكمية عادلة فاعلة بمشاركة الجميع، والمزيد من الفرص وتيسير الحصول عليها في ظل اقتصاد منفتح متنام، وتقدم في جبهة التنمية يلبي احتياجات الشعب.
لقد بدأت عملية إعادة التنشيط، والهدف تحقيق تغيير بنيوي شامل نابع من الداخل على جبهات متعددة، سياسية وتشريعية واقتصادية. ولضمان ألا نفقد الزخم، وضعنا مواعيد نهائية قريبة نحن ملتزمون بها.
ومن الجهود الأبرز في هذا السياق ما يتعلق بدستورنا الذي يعد حجر الزاوية في حياتنا السياسية، حيث تخضع تعديلات شاملة أجريت عليه حاليا إلى نقاشات برلمانية باتجاه المصادقة عليها من كلا المجلسين. وتنطوي هذه التعديلات على إنشاء محكمة دستورية وهيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات والمزيد من حماية الحقوق المدنية والحريات. ونقوم كذلك بخطوات تهدف إلى تعزيز الفصل بين السلطات وتشجيع المشاركة السياسية. وتشتمل التشريعات التي وضعت لتتوافق مع هذه الغايات على قانون انتخابات وقانون أحزاب سياسية جديدين، وغيرهما.
والإصلاح ليس بالعملية السهلة، ومع هذا فهو سائر إلى الأمام، وأنا عازم على المضي في هذا الطريق. لكن هذا نهج يتطلب مشاركة الجميع، فالديمقراطية ليست مجرد أسلوب حكم بل طريقة حياة. وبرغم أهمية الانتخابات، فإنها ليست المؤشر الوحيد على الحرية والتقدم. والعمليات الديمقراطية لن تؤدي إلا نصف الغاية منها إذا ما نظرنا إليها بمعزل عن الحريات الدستورية التي تضمن حرية التعبير والعقيدة وسيادة القانون والعدل وحماية الأقليات.
هذه قيم يجب أن تحدد تفاعلاتنا اعتبارا من اليوم. ويجب على شعبنا أن يبدأ بالتجمع، ليس فقط في الشوارع بل أيضا ضمن تحالفات حزبية ذات برامج سياسية واقتصادية واجتماعية مدروسة جيدا. عندها فقط يمكن للحياة السياسية أن تتطور وأن تنضج، من خلال المشاركة والحوار وعملية اتخاذ قرارات واعية.
أصدقائي،
لقد حمل الربيع العربي معه صرخة تطالب بعودة الكرامة مثلما طالبت بذهاب الأنظمة القديمة. لقد جرحت الكرامة العربية وتركت تنزف المرة تلو المرة، على خلفية قضية في غاية الأهمية تولد عنها الغضب والإحباط على مدى عقود عديدة، ألا وهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ونجد اليوم العديد في إسرائيل ممن يحبون أن يطمئنوا أنفسهم بأنه لا علاقة لهم بالاضطرابات المتصاعدة في الشارع العربي. ولكن بحر التغيير الذي نراه سوف يغير للأبد من طبيعة العلاقة بين إسرائيل وجيرانها. فاليوم يطالب العرب بأن يعاملوا كأنداد، وألا تعامل إسرائيل باعتبارها "استثناء" عندما تتعلق المسالة المطروحة بالقانون الدولي وما يشتمل عليه من التزامات.
إن ما يتسم به الموقف الإسرائيلي من عدم المرونة حيال المفاوضات والمستوطنات والدولة الفلسطينية أمر غير قابل للاستدامة. وما دامت المكاسب السياسية قصيرة الأمد تطغى على المصالح الإستراتيجية، فإن إسرائيل سوف تستمر في التلاعب بمستقبل شعبها. وربما يكون المطلوب ربيع سياسات إسرائيلي نشهد فيه السياسيين هناك يتحررون من عقلية الحصار وينخرطون مع جيرانهم كأنداد لهم.
لقد استحق الحل النهائي لهذا الصراع منذ أمد بعيد. ومنذ وقت لآخر أقرأ انطباعات جد والدي عن القضية العربية الإسرائيلية لأذكر نفسي بحقيقة أنه لم يتغير الكثير على مدى ستين عاما. ولا تزال دعوات والدي الملك حسين من أجل السلام ترن في أذني.
واليوم آمل أن أشهد تحقق السلام في جيلنا، ذلك أن الربيع العربي لا يتعلق فقط بمستقبل أفضل، بل بحاضر أفضل أيضا.
وشكرا جزيلا.