خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي

١٨ نيسان ٢٠١٢

 

بسم الله الرحمن الرحيم،
 
السيد الرئيس،
أعضاء البرلمان الاوروبي الكرام،
 
شكرا لكم جميعا على استقبالكم الحار، ويشرفني أن أخاطبكم من جديد. إن العلاقات بين الأردن وأوروبا راسخة، وتتجاوز مرحلة المصالح المشتركة في الازدهار والأمن في جوارنا المتعدد الأقاليم، إلى إيماننا المشترك بما يجب أن يكون عليه هذا الجوار بحيث تستحقه شعوبنا. نريده جوارا غنيا بالكرامة البشرية والحرية، يستمد قوته وإمكانياته من الفرص المتوفرة والتقدم المتحقق، ويستقي أمنه من نبع السلام.
 
وأنا أقف أمامكم اليوم للتحدث عن جوارنا وعن مستقبلنا.
 
أصدقائي، 
تتكشف أمام ناظرنا أحداث ربيع طويل في العالم العربي. وهو لن ينتهي في موسم واحد ولا حتى في سنة. وتواجه مجتمعاتنا تحديا يتمثل في ضرورة الانتقال من مرحلة الاحتجاجات إلى البرامج، ومن النقد إلى الاستراتيجيات الوطنية. وسوف تتخذ كل دولة سبيلا خاصا بها. ففي بعض البلدان، هناك حوار مآله الإجماع، وفي غيرها نشهد الانقسام وردات الفعل ومحصلته انعدام الاستقرار وانتشار العنف الذي تدفع المنطقة برمتها ثمنه. وهناك أطراف خارجية تريد استغلال هذا الحال من الفرقة. فالمخاطر حقيقية واليقين مفقود.
 
ولكنني أتحدث بلسان الملايين عندما أقول إن العالم العربي قد أفاق من غفوته، وأن التغيير الإيجابي قد بدأ.
 
وقد كانت الإشارات على ذلك موجودة بالفعل لمن أراد أن يراها، فمنذ عقد أو ما يزيد عن ذلك، بدأت شعوب المنطقة تطرح الأسئلة وتغذي مطامحها وتبحث عن إصلاح ذي معنى وتعمل على تمكين المجتمع المدني، خصوصا النساء، والشباب المرتبطين بالعالم الرقمي والواعين لما يحصل في هذا الكوكب.
 
وقد أدت الأحداث التي حصلت إلى جعل هذه المطالب أكثر إلحاحا، فالأزمات العالمية في مجالات المال والغذاء والطاقة قد ألحقت أذى كبيرا باقتصادياتنا، والعائلات العربية التي ضحت بالغالي والنفيس لتعليم أطفالها ترى أبناءها وبناتها يتخرجون من الجامعات ويستعدون للوظيفة، ولكنهم لا يجدونها. وتواجه منطقتي اليوم أعلى معدل بطالة بين الشباب على مستوى العالم، وأطلق البعض على هؤلاء وصف "جيل في وضع الإنتظار"، ونتحدث هنا عن 100 مليون شاب يشكلون أكبر تجمع شبابي في تاريخنا.
 
إنني أدرك أن الاهتمام بالشباب وما يخصهم موجود هنا في أوروبا. صحيح أن الحقائق الديمغرافية في منطقتنا مختلفة، ولكن هناك إحصائية مشتركة تجعلهم سواء، وهي أن 100 بالمئة من شباب اليوم هم مستقبلنا، وليس بوسعنا أن نترك ولو مواطنا شابا واحدا ينتظر عبثا.
 
وهذا الواقع هو ما يشكل روح النهج الأردني حيال الربيع العربي، والذي احتضناه باعتباره فرصة لتجاوز العوائق التي أبطأت مسيرة الإصلاح في الماضي. وفي العام الفائت اتخذنا خطوات فورية للانخراط في حوار وطني بهدف بناء الإجماع على برامج عملية ملموسة. وكان هناك تركيز مبكر على الدستور الذي يعد حجر الزاوية في نظامنا السياسي، وتم في أيلول الماضي، وبناء على توصيات من اللجنة الملكية للتعديلات الدستورية التي تشكلت لهذه الغاية إدخال تعديلات على ثلث المواد الدستورية. فهناك في الدستور المعدل مواد من شأنها توسيع التمثيل، وتقوية الأحزاب السياسية، وحماية الحقوق والحريات المدنية وتعزيز الفصل بين السلطات. ومن معالم الطريق البارزة التي تحققت أيضا صياغة قوانين تحكم عمل الأحزاب السياسية والانتخابات البلدية والنيابية، بالإضافة إلى تشريع لإنشاء المحكمة الدستورية، واللجنة المستقلة للإشراف على الانتخابات. والخطوات القادمة تتضمن إجراء الانتخابات البلدية والتشريعية. وباعتباري الضامن والكفيل لعملية الإصلاح السياسي، فقد طلبت من الحكومة والبرلمان الالتزام بالجدول الزمني المتفق عليه والانتهاء من إقرار بقية القوانين بالسرعة الممكنة بدون التأثير على شمولية العملية.
 
لن يبني مستقبل الأردن إلا الأردنيون، وعلينا أن نفعل ذلك بطريقة تضمن الحفاظ على الأردن سالما وملاذا آمنا برغم وجوده في منطقة تزداد اضطرابا من حولنا، وبرغم التهديدات الاقتصادية والأزمات في الدول المجاورة. ويتطلب هذا السبيل إصلاحا قائما على الإجماع يتبنى التغيير الهيكلي الشامل سياسيا وقانونيا واقتصاديا واجتماعيا، وإحترام حقوق وحريات كل المواطنين. وسوف يقدم الأردن للمنطقة من خلال هذه العملية نموذجا للتحول السياسي التدريجي نحو الديمقراطية.
 
وأنا واثق تماما أن عام 2012 سيكون عام الإصلاحات السياسية الرئيسية في الأردن، ومن أهم ما نعمل على تحقيقه حاليا تقوية الحياة السياسية الحزبية لتتفق مع شروط قيام حكومات برلمانية، مدركين أن المسالة لا تتعلق بانتخابات واحدة، بل أيضا الانتخابات القادمة وتلك التي تليها والتي تليها، كي تثبت قدرة النظام على العمل.
 
ونحن نقدر كثيرا اعتراف الاتحاد الأوروبي بمسارنا الإصلاحي. فمنذ شهرين فقط اجتمع فريق العمل الأوروبي الأردني الجديد في عمان لمناقشة البرامج الرئيسية الهادفة إلى دعم أولوياتنا الإصلاحية، والمتمثلة في المؤسسات الديمقراطية والمجتمع المدني وتوفير الوظائف والتنمية الاقتصادية المحلية والمساعدات الإنسانية وغيرها. وفي الشهر القادم تحل الذكرى العاشرة لدخول اتفاقية الشراكة حيز التنفيذ، وما تحقق عن ذلك من فتح للأسواق وتوفير فرص عمل في كلا الجانبين. واعتقد أن هذه الفرص التي تعززت الآن بحصول الأردن على "الوضع المتقدم" في الشراكة مع الاتحاد سوف تزدهر أكثر في السنوات القادمة.
 
لقد استمر الأردن في السعي لتحقيق أهدافه رغم الصراع الإقليمي، لكن لا بد أيها الأصدقاء من تحقيق السلام إن أردنا للمنطقة أن تزدهر وتنعم بالأمن، إذ ليس بوسعنا أن نخلق جيلا آخر "في وضع الإنتظار" للدولة الفلسطينية.
 
قبل عشر سنوات، تحدثت الدول العربية بصوت واحد باسم السلام العادل، واتخذنا قرارا أن ننظر للأمام وليس للخلف، وأن نسعى للاتفاق ونعرض القبول. وقد اعترف بمبادرة السلام العربية كل الأطراف الرئيسية الداعمة للسلام في العالم، بما فيها الاتحاد الأوروبي وأعضاء اللجنة الرباعية الآخرين، وينبغي لإسرائيل أن تنخرط في ذلك.
 
ومبادرة السلام العربية قائمة على الحل الوحيد الممكن، وهو حل الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب بكرامة وقدرة على تقرير المصير - دولة فلسطينية ذات سيادة ومستقلة وقابلة للحياة ضمن حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمانات وافية بسلام وأمن كامل لإسرائيل وتسوية نهائية حسب قرارات الأمم المتحدة، وحل متفق عليه لكل قضايا الوضع النهائي. بل إن هذه المبادرة تجاوزت عرض السلام وعلاقات طبيعية بين إسرائيل والعالم العربي، حيث أقرها العالم الإسلامي برمته. إن هذا العرض المطروح على الطاولة منذ عشر سنين هو حل تتبناه سبع وخمسين دولة.
 
وتشير بعض العناصر السياسية إلى تغيرات في العالم العربي تقول للشعب الإسرائيلي إن المفاوضات لا يمكنها الانتظار. ليس هناك وقت للانتظار، حيث إن الربيع العربي قد قام في أساسه على المطالبة باحترام البشر. وليس هناك من إهانة أشد من الاحتلال الإسرائيلي. فكلما طالت معاناة الشعب الفلسطيني، وكلما استمر الاستيطان، ازدادت الإحباطات والمخاطر وما لا نعلم من تهديدات. ولو تخطينا إلى مرحلة لا يعود فيها حل الدولتين ممكنا، فإن إسرائيل ستكون أبعد عن الأمن من أي وقت مضى، وسوف يحتاج السلام إلى عقود، بل أجيال، ليمسك بالمبادرة من جديد.
 
ويرى الأردن في عملية السلام الفعالة واجبا أخلاقيا ومصلحة استراتيجية، ولا زلنا نسعى لتحقيق نتائج ملموسة. وقد نجحنا هذا العام في عمان في جمع المفاوضين على طاولة الحوار عدة مرات. ولم يكن بإمكاننا تحقيق ذلك بدون العمل الرائع الذي قامت به الدبلوماسية الأوروبية - وذلك من خلال تفعيل اتصالاتها وحشد الدعم والاستمرار في الضغوط لأجل السلام، والأهم من ذلك، الإبقاء على جذوة الأمل متوقدة. وقد استطاع الاتحاد الأوروبي فعلا خلال العامين الماضيين أن يثبت أنه صديق لا يقدر بثمن لكل الساعين لتحقيق السلام في الشرق الأوسط في كلا الجانبين.
 
لقد كانت المباحثات الاستكشافية في عمان مجرد خطوات صغيرة وفرت للأطراف فرصة للاستمرار في الاتصالات الثنائية. وتحتاج عملية السلام الآن إلى قفزة كبيرة للأمام، والشراكة الأوروبية لها أهمية حيوية في هذا السياق. لقد اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفا مبدئيا داعما لحل الدولتين العادل ومناهضا لبناء المستوطنات غير القانوني الذي يعيق التقدم. وأنتم تدركون المخاطر المترتبة على العالم بسبب استمرار الصراع وكذلك فوائد السلام عالميا. وأنتم تتمتعون بمصداقية كبيرة في تجربتكم في بناء مؤسسات ديمقراطية وفي تحقيق الأمن وتعزيز الثقة. وآمل أن نستفيد من ثمار ذلك في الأيام القادمة.
 
أصدقائي،
نحن شعوب عديدة تعيش في جوار واحد ولها مستقبل واحد. وهذا هو التحدي الماثل أمام أوروبا والشرق الأوسط... وهو في الوقت ذاته مصدر قوتنا.
 
نحن نواجه معا قضايا كبيرة، ذات علاقة بالاقتصاد والسياسة والسلام. والحلول معقدة والطريق للأمام صعبة.
 
ولكننا معا نملك الإرادة والحكمة لتحقيق الأهداف التي نسعى إليها. وبإمكاننا أن ننجح معا.
 
وشكرا جزيلا.