خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة السابع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، النبي العربي الهاشمي الأمين.
حضرات الأعيان،
حضرات النواب،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فباسم الله وعلى بركة الله، نفتتح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة السابع عشر، لتكون محطة جديدة في مسيرتنا نحو تعميق الديموقراطية، خاصة ركنها النيابي، واستمرار الإصلاح وخدمة الوطن والمواطن.
وفي هذا اليوم، أتوجه بتحية الفخر والإعتزاز إلى جميع الأردنيين، الذين أثبتوا على مرّ السنين قدرتهم على الصمود في مواجهة التحديات التي فرضتها التحولات التاريخية في المنطقة، مستندين إلى وحدتهم الوطنية وإجماعهم على حماية هذا الوطن، الذي قدم الكثير من أجل قضايا أمتـه العربية والإسلامية.
وبالرغم مـن كل التحديـات، فإن الأردن لم يسمح ولن يسمح أن تكون الصعوبات والاضطرابات الإقليمية حجة أو ذريعة للتردد في مواصلة مسيرته الإصلاحية الشاملة. فنحن لا نرى الإصلاح ردة فعل لواقع صعب، بل هو خيار وطني نابع من الداخل، يعزز الوحدة الوطنية والتعددية والاعتدال، ويوسّع المشاركة، ويعمّق الديموقراطية، ويرسّخ نهـج الحكومات البرلمانية.
فعلى صعيد تفعيل مشاركة المواطن في عملية صنع القرار، قمنا بتدشين تجربتنا في الحكومات البرلمانية، من خلال تبني نهج التشاور مع كتل وأعضاء مجلس النواب للتوافق على اختيار رئيس الوزراء، وتمكين المواطن من المساهمة في إعداد تصور مستقبلي لاقتصادنا للسنوات العشر القادمة، بما يحقق الحياة الكريمة والمستقبل المشرق لأبناء وبنات الأردن العزيز.
أما فيما يتعلق بالجهود المستمرة للحدّ من مشكلتي الفقر والبطالة، فقد تم إقرار الإستراتيجية الوطنية للتشغيل لتوفير فرص العمل للشباب، وتم إنشاء صندوق تنمية المحافظات، الذي يحتاج إلى زيادة المخصصات حتى يوسع أعماله في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الإنتاجية. كما تم تعزيز شبكة الأمان الإجتماعي التي تحمي فئة ذوي الدخل المحدود من خلال توجيه الدعم إلى مستحقيه.
وفي الجانب الاقتصادي، تم إنجاز عدد من المشاريع الحيوية الكبرى، ومن أبرزها: جرّ مياه الديسي، وتطوير مطار الملكة علياء الدولي، وتطوير ميناء الحاويات، بالإضافة إلى المشاريع التي يجري تنفيذها كموانئ البضائع العامة والنفط والغاز الـمُسال، ومشاريع الطاقة، وخاصة المتجددة والبديلة، والعمل على تطوير قطاع السكك الحديدية، وقطاع النقل العام بما يحدث نقلة نوعية فيه، وغيرها.
ومن أبرز الإنجازات أيضاً الخطوات التي قمنا بها لترسيخ مبادئ النزاهة والشفافية، ومحاربة جميع أشكال الفساد، وتعزيز ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها. فقد وضعت اللجنة الملكية لتعزيز النزاهة الوطنية ميثاقاً وطنياً لإرساء قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والمساءلة. ولضمان ترجمة مخرجات هذه اللجنة على أرض الواقع، قمنا بتكليف لجنة ملكية لتقييم العمل ومتابعة الإنجاز، كما قدَّمت لجنة تقييم التخاصية تقريرها للإستفادة منه في رسم السياسات الاقتصادية المستقبلية وتنفيذ مخرجات هذه اللجان، وهذا يرسخ أفضل الممارسات في إدارة الثروات الوطنية.
حضرات الأعيان،
حضرات النواب،
إن المرحلة المقبلة تتطلب جهداَ تشاركـياَ ومخلصاَ للبناء على ما تـم إنجازه، وفق أولويات وطنية واضحة ومسارات متوازية.
ففي مجال الإصلاح السياسي، بدأت الحكومة في وضع تصور تفصيلي ومتدرج لتفعيل دور وزارة الدفاع للنهوض بالـمهام السياسية والاقتصادية والاجتماعية واللوجستية للدفاع الوطني، وهذا يتضمن تفعيل دور المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات. وقد أقر مجلسكم الكريم مؤخراً التعديل الدستوري الذي يُمكِّن الهيئة المستقلة للانتخاب من إدارة الانتخابات البلدية وأي انتخابات عامة أخرى، فضلا عن الانتخابات النيابيـة، وهذا يستدعي عددا مـن التعديلات التشريعية لتتوافق مع الدستور.
كما يـتطلب مسار الإصلاح السياسي أيضا ترسيخ نهج الحكم المحلي عبر إنجاز قانون البلديات واللامركزية أولاً، ومن ثم الانتقال إلى قانون الإنتخاب، إضافة إلى استمرار تطوير آليات عمل مجلس النواب، ومن ضمنها: النظام الداخلي، وإقرار مدونة السلوك، وتكريس عمل الكتل النيابية على أساسٍ برامجي وحزبي، وذلك كله بالتوازي مع تنفيذ مخرجات الخطة الوطنية لحقوق الإنسان، فلا إصلاح بدون احترام الحقوق وصون الحريات.
حضرات الأعيان،
حضرات النواب،
أما فـي مجال الإصلاح الإداري، فلا بد من وضع آلياتٍ قابلة للتطبيق. فلا فائدة من وجود برامج لإصلاح القطاع العام، بما فيها مشروع الحكومة الإلكترونية، ما لم يلمس المواطن تحسناً نوعياً في الخدمات المقدمة إليه. وهنا أؤكد على ضرورة التزام جميع مؤسسات الدولة بتعزيز ثقافة التميز والشفافية والمساءلة وتطبيق الميثاق الوطني للنزاهة ووضع التنظيم المؤسسي لتعزيز منظومة النزاهة، وفق التوصيات التي ستقدمها اللجنة الملكية لتقييم العمل ومتابعة الإنجاز.
وفي الإصلاح الاقتصادي، يجـب الإسراع في إقرار التشريعات الاقتصادية، وخصوصا المتعلقة بالطاقة، والاستثمار، وإنجاز قانون ضريبة الدخل، بما يعكس أعلى درجات الشعور بالمسؤولية، بشكل يطور بيئـة الأعمال، ويرتكـز على مخرجات التصور المستقبلي للاقتصاد الوطني.
وفي مجال الخدمات التعليمية والصحية، فلا بد من إحداث نقلة نوعية وإصلاح جذري في هذه القطاعات يرتكز على حوار وطني تشارك فيه جميع المؤسسات الوطنية المعنية، للحفاظ على مكانة الأردن الريادية في هذه المجالات الحيوية المهمة.
حضرات الأعيان،
حضرات النواب،
لقد دأب الأردن على تحمل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية تجاه القضايا التي تهدد الأمن الإقليمي والدولي، وسيستمر في توظيف مكانته وكونه عضواً في مجلس الأمن الدولي لخدمة قضايا أمته العربية والإسلامية.
فالقضية الفلسطينية هي قضيتنا الأولى، وهي مصلحة وطنية عليا، والقدس التي روت دماءُ شهدائنا ترابَها هي أمانة في عمق ضميرنا، وسيستمر الأردن بالتصدي بشتى الوسائل للممارسات والسياسات الإسرائيلية الأحادية في القدس الشريف، والحفاظ على مقدساتها الإسلامية والمسيحية، حتى يعود السلام إلى أرض السلام.
وسنواصل حشد الجهود الدولية لإعمار غزة بعد العدوان الغاشم الذي أودى بأرواح الآلاف من أشقائنا الفلسطينيين ودمر ممتلكاتهم.
وحتى لا يتكرر مثل هذا العدوان فلا بد من العودة إلى إطلاق مفاوضات قضايا الوضع النهائي، والوصول إلى السلام الدائم على أساس حل الدولتين، وفقا للمرجعيات الدولية ومبادرة السلام العربية، بما يمكّن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، وعاصمتها القدس الشرقية.
أما فيما يتعلق بالأزمة السورية، فإننا نجـدد التأكيد على أن الحل الوحيد هو الحل السياسي الشامل، بمشاركة جميع مكونات الشعب السوري، والذي يضمن وحدة سوريا واستقرارها. وفي غياب مثل هذا الحل، سيتكرس الصراع الطائفي على مستوى الإقليم، كما سيؤدي عدم إيجاد حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية إلى تغذية التطرف والإرهاب.
لقد نهض الأردن بدوره القومي والإنساني تجاه الأشقاء من اللاجئين السوريين، ومع تقديرنا الصادق والكبير للدعم الذي تلقيناه من أشقائنا وأصدقائنا، فحجم الدعم الدولي لم يرتق إلى مستوى الأزمات وتبعات استضافة اللاجئين، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته في تقديم المساعدات للاجئين، وللأردن، وللمجتمعات المحلية المستضيفة.
حضرات الأعيان،
حضرات النواب،
لقد عانت هذه المنطقة من بعض التنظيمات التي تتبنى الفكر التكفيري والتطرف، وتقتل المسلمين والأبرياء من النساء والأطفال باسم الإسلام، والإسلام منهم بريء. فالإسلام هو دين السلام والتسامح والاعتدال وقبول الآخر واحترام حق الإنسان في الحياة والعيش بأمن وكرامة، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو دينه أو معتقداته. وهذه التنظيمات تشن حربها على الإسلام والمسلمين قبل غيرهم.
إن من واجبنا الديني والإنساني أن نتصدى بكل حزم وقوة لكل من يحاول إشعال الحروب الطائفية أو المذهبية وتشويه صورة الإسلام والمسلمين، ولذلك، فالحرب على هذه التنظيمات الإرهابية وعلى هذا الفكر المتطرف هي حربنا، فنحن مستهدفون، ولابد لنا من الدفاع عن أنفسنا وعن الإسلام وقيم التسامح والاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب، وإن كل من يؤيد هذا الفكر التكفيري المتطرف أو يحاول تبريره هو عدو للإسلام وعدوٌ للوطن وكل القيم الإنسانية النبيلة. وبالمقابل، فإن على المجتمع الدولي التصدي للتطرف في المذاهب والأديان الأخرى.
حضرات الأعيان،
حضرات النواب،
إن مصدر منعة الأردن هو جبهتنا الداخلية القوية وممارسات المواطنة الفاعلة. وعليه، فإننا نؤكد هنا أن الحوار واحترام القانون هو السبيل الوحيد للوصول إلى أعلى درجات التوافق الوطني تجاه قضايانا الوطنية.
كما أن المناخ الـمتقدم من الحريات والمشاركة السياسية والمجتمعية التي يمتاز بها الأردن رغم وجوده في إقليم ملتهب، هي حصيلة مكتسبات الأمن والاستقرار الذي ضحّى في سبيله رفاق السلاح في قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية. فلهم منّا تحية الفخر والإعتزاز والتقدير. وهنا أقول للنشامى في الجيش العربي: إن الشعار الذي على جباهكم مكتوبٌ عليه "الجيش العربي"، وهذا الاسم لم يكن صدفة أو مجرد شعار، وإنما هو تأكيد على التزام هذا الجيش بالدفاع عن قضايا الأمة العربية، وترابها وأمنها من أي خطرٍ يهددها. فأمن الأردن جزء من أمن أشقائه العرب، وسيظل هذا الجيش العربي المصطفوي، ورفاقه في الأجهزة الأمنية كما كان على الدوام مستعداً للتصدي لكل ما يمكن أن يهدد أمننا الوطني، أو أمن أشقائنا في الجوار. فالأمن العربي كل لا يتجزأ.
وحتى يبقى جيشنا وأجهزتنا الأمنية على أعلى درجات الكفاءة والإقتدار، فإننا نؤكد على ضرورة إلتزام كل مؤسسات الدولة بدعم قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية الذين يسهرون على حماية أمن الأردن والأردنيين.
وسيبقى الأردن كما كان على الدوام نموذجا في العيش المشترك والتراحم والتكافل بين جميع أبنائه وبناته مسلمين ومسيحيين، وملاذا لمن يطلب العون من أشقائنا، ومدافعا عن الحق، ولا يتردد في مواجهة التطرف والتعصب والإرهاب الأعمى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.