خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي

١٠ آذار ٢٠١٥

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الرئيس،
السادة الأعضاء،

أشكركم جزيلاً، واسمحوا لي أن أؤكد اليوم اعتزاز الأردن بالصداقة العميقة التي تجمعه بكم، وأن أعبّر لكم عن عميق تقديري على دعوتكم للحديث من على هذا المنبر اليوم.

واسمحوا لي أيضا أن أشكر أهالي ستراسبورغ على كرم الضيافة، حيث لا تزال هذه المدينة تشكل شاهدا حيّا على نجاح المجتمعات في الانتقال من الحرب إلى السلام، ورمزا للمصالحة ووحدة أوروبا.

أصدقائي،
إن حياة الناس تزدهر حيث يزدهر الاحترام المتبادل، وتقوم الحضارة الإنسانية على هذا المبدأ، والمستقبل الأفضل يتحقق به.

إلا أن علينا أن نتذكر أن التعايش القائم على الاحترام المتبادل يُصنع بأيدي البشر، ويجب ترسيخه من جديد مع كل جيل. ولا وسيلة لحماية المجتمعات، إلا باليقظة والعمل الجاد. وهذا يتطلب ما هو أكثر من مجرد تدابير أمنية، إذ أن على الإنسانية أن تسلّح نفسها بالأفكار والمبادئ، وبالعدل، وإشراك الجميع اقتصاديا واجتماعيا.

واليوم تكتسب هذه التحديات أهمية خاصة، حيث يواجه عالمنا عدوانا من إرهابيين يحملون أطماعاً لا تعرف أي رحمة. ليس دافعهم الإيمان، بل شهوة السلطة؛ السلطة التي يسعون إليها عبر تمزيق البلدان والمجتمعات بإشعال النزاعات الطائفية، والإمعان بإنزال الأذى والمعاناة بالعالم أجمع.

إن ما ارتكبته عصابة داعش الإرهابية من قتل وحشيّ لطيارنا البطل قد أغضب جميع الأردنيين والأردنيات، وروَّع العالم. وكان ردّ الأردن على هذه الجريمة سريعا وجادا وحازما، وسوف تستمر معركتنا، لأننا، ومعنا دول عربية وإسلامية، لا ندافع فقط عن شعوبنا، بل عن ديننا الحنيف. فهذه معركة على الدول الإسلامية تصدرها أولا، فهي – قبل كل شيء – حرب الإسلام.

وفي الوقت نفسه، علينا أن نرى تهديد التطرف على حقيقته، فهو تهديد عالمي، وأثره لا ينحصر في سوريا والعراق فقط، إذ طال عدوانه ليبيا واليمن وسيناء ومالي ونيجيريا والقرن الإفريقي وآسيا والأمريكيتين واستراليا. وقد تعرضت أوروبا أيضاً لهجمات جبانة واجهتها بشجاعة لا تلين. ونقول لكم اليوم: إن أصدقاءكم معكم. ففي كانون الثاني، كنت أنا ورانيا مع ملايين الناس في فرنسا في وقفة تضامن وتنديد بالعنف والإرهاب.

أصدقائي،
هناك من يعيش في أوروبا اليوم ويتذكر الويلات التي ضربت هذه القارة في أواخر الثلاثينيات، والحرب العالمية التي تلتها، والتي أشعلتها أيديولوجية عدوانية توسعية، قائمة على الكراهية وازدراء الإنسانية. فأصبحت الحرب في أوروبا وقتها حرب العالم كله. إننا اليوم نخوض حربا مماثلة، حربا ضد أيديولوجية توسعية تتغذى على الكراهية، وترتكب القتل باسم الله تعالى والدين لتبرير شرور لا يقبل بها أي دين. إنها بلا شك حرب ضد إرهابيين ينتهكون قيم الإسلام والإنسانية.

واليوم، بات انتصارنا يعتمد على وحدتنا. فدور أوروبا حيوي في حسم هذا الصراع. ولا سبيل إلا التعاون فيما بيننا لسد منافذ الدعم للإرهابيين وإحباط وهزيمة مخططاتهم الشريرة.

ومن الضروري بمكان أيضا أن نعمل على تعزيز مصادر القوة التي تجمعنا: ألا وهو الاحترام المتبادل الذي يربط بيننا ويديم علاقتنا. ويجب أن نزرع في شبابنا خصوصا القيم التي ترفض العنف وتصنع السلام وتبني المجتمع الذي يحتضن الجميع بلا تفرقة. واسمحوا لي أن أتناول هنا ثلاثة مجالات أساسية:

الأول هو التواصل، الحقيقي وذو الأثر الإيجابي، بين الأديان وإشراك الناس في هذا الجهد من داخل المجتمعات التي يعيشون فيها. فالحوار القائم على الاحترام هو الأساس الذي تقوم عليه جميع المجتمعات، أما التعدي على الآخرين وعزلهم وإهانة الشعوب وأديانها ومعتقداتها وشعورها الديني، فهي انتكاسة للمجتمعات. فالمستقبل يُنشد بالوحدة والاحترام، وليس بالفُرقة وترسيخ النماذج المغلوطة.

وتعد أوروبا شريكا هاما في هذا المسعى، خصوصا في المساعدة على محاصرة ظاهرة الخوف من الإسلام المتنامية عالميا، وهي ظاهرة هدّامة تتغذى على الأفكار المغلوطة، وتخدم غايات المتطرفين وأهدافهم.

ولهذا السبب، فمن الضروري أن نوضح المعنى الحقيقي لأن يكون المرء مسلما. فأنا وغالبية المسلمين قد نشأنا منذ الطفولة ونحن نتعلم أن الإسلام يفرض احترام الآخرين وتقديم الرعاية لهم. والنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وهذا ما يعنيه أن يكون المرء مسلما.

كما أن من بين أسماء الله الحسنى: "الرحمن الرحيم". وفي كل يوم، وطوال حياتي، يتبادل الناس تحية "السلام عليكم"، وهي دعاء للآخر بأن ينعم بالسلام. وهذا ما يعنيه أن يكون المرء مسلما.

علينا أن نتذكر أنه وقبل أكثر من ألف سنة على اتفاقيات جنيف، كان الجنود المسلمون يؤمرون بألا يقتلوا طفلا أو امرأة، أو شيخاً طاعنا في السن، وألا يقطعوا شجرة، وألا يؤذوا راهبا، وألا يمسوا كنيسة. وهذه هي قيم الإسلام التي تربينا عليها وتعلمناها صغارا في المدرسة، وهي ألا تدنس أماكن العبادة من مساجد، وكنائس، ومعابد.

وهذا ما يعنيه أن يكون المرء مسلما، وهذه هي القيم التي أربي أولادي عليها، وسوف يعلمونها لأولادهم.

أصدقائي،
يتملكني الحزن والغضب بسبب الهجمات الأخيرة في بعض البلدان ضد المسيحيين والأقليات. فإضافة إلى كونها جريمة ضد الإنسانية، فإنها جريمة ضد الإسلام أيضاً. فالمسيحيون العرب هم جزء لا يتجزأ من ماضي منطقتنا وحاضرها ومستقبلها.

إن الأردن بلد مسلم يعيش فيه مجتمع مسيحي له جذور ضاربة في التاريخ. ويشكل الشعب الأردني، بمختلف مكوناته، مجتمعا واحدا لا يقبل القسمة، أصدقاء وشركاء في بناء بلدهم ومستقبلهم.

واليوم نتذكر أيضا أن للمسلمين دور حاسم في إرساء التفاهم والتسامح العالمي. وديننا، كما هو دينكم، يأمر بالرحمة والسلام والتسامح. وديننا، كما هو دينكم أيضاً، يأمر بحفظ كرامة كل إنسان بلا استثناء، من رجال ونساء وجيران وغرباء. أما أولئك الخوارج من الإرهابيين الخارجين عن تعاليم الإسلام، والذين ينكرون هذه الثوابت فهم مجرد نقطة في بحر المؤمنين، المكوّن من 1.6 مليار مسلم في مختلف أنحاء العالم. وفي الواقع، فإن هؤلاء الإرهابيين قد جعلوا من المسلمين في العالم هدفهم الأول، لكننا لن نسمح لهم باختطاف ديننا الحنيف.

أصدقائي،
القضية الثانية التي أود تناولها والتأكيد عليها هي أن السلم والوئام العالميين يشكلان منظومة دولية تكفل الحقوق والاحترام لجميع الشعوب. إلا أنني أتعرض للسؤال التالي، مرارا وتكرارا، ومفاده: لماذا لا يدافع العالم عن حقوق الشعب الفلسطيني؟

فمرة تلو الأخرى، تنتكس عملية السلام لتتوقف وتتجمد. واسمحوا لي أن أصف لكم الوضع القائم على حقيقته: فهناك تزايد في بناء المستوطنات الإسرائيلية، وتراجع في احترام حقوق الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال.

إن هذا الفشل يبعث برسالة خطيرة، إذ يؤدي إلى تآكل الثقة بالقانون والمجتمع الدولي، ويهدد ركائز السلام العالمي، أي حل الصراعات بالوسائل السياسية والسلمية، وليس بالقوة أو العنف. كما أن هذا الفشل يمنح المتطرفين حجة تساعدهم على حشد الدعم والتأييد، ذلك أنهم يستغلون الظلم والصراع، الذي طال أمده، لبناء الشرعية وتجنيد المقاتلين الأجانب في جميع أنحاء أوروبا والعالم.

لقد آن الأوان للتفكير في المستقبل والالتفات إلى أن هذا الصراع المستمر سوف يولد مزيدا من الكراهية والعنف والإرهاب في جميع أنحاء العالم. وعليه، فكيف يمكننا خوض هذه المعركة الأيديولوجية ضد الإرهاب دون أن نرسم مسار التحرك إلى الأمام، أي نحو تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ وهنا، يجب على بلداننا أن توحد جهودها، ورسم الطريق التي ستقودنا إلى تسوية شاملة نهائية.

سيداتي وسادتي،
إن هناك مجال ثالث في غاية الأهمية، ويتمثل في بناء الأمل. فالتطرف يتغذى على انعدام الأمن الاقتصادي والإقصاء. ومن أجل إيجاد مزيد من الشركاء في بناء السلام العالمي، تحتاج الشعوب إلى فرص لتحقيق إمكاناتها وبناء حياة كريمة. فتمكين الناس أقوى رسالة تعبر عن الاحترام.

وهنا، فقد أكّد البرلمان الأوروبي على أهمية إيجاد فرص اقتصادية واجتماعية من خلال تكريس سنة 2015 كعام التنمية.

وبالنسبة للأردن، فإن التنمية تمثل أولوية ملحة. فعلى الرغم من التحديات الإقليمية، مضينا قدما في الجهود التنموية، وكافحنا لتلبية الاحتياجات الملحة وخلق فرص العمل وتحسين نوعية الحياة، وذلك عبر المضي قدما في إصلاحاتنا المستمرة والشراكات التي نقيمها، ومثالها شراكتنا مع الاتحاد الأوروبي. والأردن يثمن شراكتنا الراسخة معكم ومع دولكم. ونحن عازمون، بدعمكم، على العمل معاً لتحقيق مستويات متقدمة من الشراكة.

وبدوره، فإن الأردن يأخذ التزاماته الأخلاقية تجاه الآخرين بمنتهى المسؤولية. فعلى الرغم من الموارد الشحيحة، فتح الشعب الأردني ذراعيه لاستقبال اللاجئين الفارين من العنف في المنطقة. وقد استقبل الأردن آلاف المسيحيين العراقيين السنة الماضية، فضلاً عن توفير المأوى لـ 1.4 مليون لاجئ سوري خلال السنوات القليلة الماضية، والذين يشكلون 20% من السكان. إن هذا الواقع يماثل قيام فرنسا باستضافة كل سكان بلجيكا. فبلدي الصغير، الأردن، قد أضحى الآن ثالث أكبر مضيف للاجئين في العالم. ونقدّر عاليا جهد كل أولئك الذين يعينوننا في أداء هذه المسؤولية الدولية.

أصدقائي،
إن دعمكم رسالة ليس فقط لشعبي الأردني، بل لجميع المؤمنين ببناء المستقبل عبر نهج السلام والاعتدال، ومفادها أن أوروبا معكم.

فلا يمكن لمنطقتينا وشعوبنا أن تحظى بشركاء وجيران أفضل مما يمكننا أن نوفره لبعضنا البعض. إن التاريخ والجغرافيا والمستقبل المشترك يربطنا. ولن ندع أحدا يفرق بيننا. ومعا يمكننا بناء ركائز الاحترام المتبادل التي من شأنها ضمان المنفعة المشتركة للأجيال القادمة.

وشكرا لكم.