الطريق إلى الإصلاح
ما هو النهج الصحيح الذي يجب اتّباعه لتحقيق التنمية في القرن الحادي والعشرين؟ هل يتّخذ شكلاً واحداً، أم أنه يمكن إحراز خطوات فعلية إلى الأمام بطرق مختلفة؟ يوفر التاريخ الحديث دروساً عديدة، ولكن أحدها يبقى على مرّ الزمن: وهو أن التغيير الناجح يأتي من الداخل. وكان هذا صحيحاً بالنسبة للغرب، كما أن الأيام أثبتت صحته للدول النامية التي تُعتبر مخزون قوّة، وسيكون صحيحاً أيضاً للشرق الأوسط.
سياسة التنمية في العالم العربي ليست قضية أكاديمية، بل هي حاجة ملحّة. ومع أن المنطقة لا تعاني من الفقر المورّث لليأس الذي نشهده في الدول التي تعتبر فيها التنمية في أدنى درجاتها، فإن واحداً من كل خمسة من العرب يعيش على أقل من دولارين في اليوم. والنمو الاقتصادي أساسي لتوفير فرص العمل، ومع ذلك فإن النمو الإقليمي أقلّ كثيراً من المعدّل للدول النامية، فمعدّلات البطالة في الشرق الأوسط تبلغ في المتوسط 15 في المئة، ونحو ستة ملايين باحث جديد عن العمل يدخلون السوق كل عام. وقد انخفض معدّل دخل الفرد في المنطقة فعلاً خلال العقدين الأخيرين.
يستحق العرب جميعاً أفضل مما لديهم، وأكثرهم استحقاقاً هم الشبّان، علماً بأن أكثر من نصف سكان المنطقة دون الثامنة عشرة من العمر. وهم يرون الإمكانات الغنيّة للعالم يومياً في وسائل الإعلام وعلى شاشات أجهزة الكومبيوتر لديهم. وهم يريدون أن يحوزوا إمكانية الوصول إلى ذلك العالم، إضافة إلى الحصول على مُتنفّس لطاقاتهم وإبداعاتهم.
والإحباط يمكن أن يقود إلى لامبالاة خطرة أو ما هو أسوأ من ذلك. وقلّة قليلة قد تتحوّل إلى التطرّف، ولكن هذه القلة تظل كثيرة العدد في منطقة عانت نزاعاً مريراً وفُرْقة لمدة طويلة.
بالنسبة للذين يؤمنون بمستقبل الشرق الأوسط منا- ونحن كثرة- فإن البديل هو التغيير التقدّمي: الحاكمية الرشيدة، والنمو الاقتصادي، والتنمية الوطنية. وفي الواقع ، فإن الإصلاحات في هذه المجالات تكتسح منطقتنا. والانتخابات غدت جزءا من الحياة السياسية لمزيد من العرب أكثر من أي وقت مضى، ونسبة مشاركة المرأة في الحكم ترتفع، وجيلنا الجديد لديه طاقات متوثّبة، ووعي ملحوظ بمعطيات العولمة. والمفكرون الخلاّقون يدفعون بهذا التغيير الإقليمي إلى الأمام من خلال منظمات مثل مجلس رجال الأعمال العرب، ومؤتمر الإسكندرية للإصلاح العربي، واجتماع صنعاء حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي تونس، في أيار الماضي، أقرّت جامعة الدول العربية بأن هناك حاجة للإصلاح.
مثل هذا النجاح يعكس ثلاث حقائق. أولها: أنه ليس هناك حلول ذات مسار منفرد. فالتغيير الحقيقي هو التغيير الشامل. وثانيها: أن التغيير يتطلب الشراكة. فالحكومة لا يمكن أن تعوّض عن وجود قطاع خاص صحي، وكلاهما بحاجة إلى مجتمع مدني قوي. وآخرها: أنه لا بدَّ لهذه العملية أن تنضج داخل الوطن وأن تكون مُسْتوعبة للجميع لا تستثني أحداً. فالنجاح يتطلب طاقات الناس من جميع قطاعات المجتمع، وانخراطهم ومشاركتهم، بما في ذلك المعلمين، وأصحاب المشروعات، وقادة المجتمع المحلي، والعاملين في الخدمة الحكومية، وآخرين. وفرض عملية إصلاح من الخارج هو عملية غير متجذرة في تاريخ الناس، ومجتمعاتهم المحلية، وثقافتهم، ولا يمكن أن يولّد الالتزام الذي يتطلبه التقدّم.
العالم العربي مُهيّأ بصورة جيدة لتقديم ذلك الالتزام. فالإصلاح له جذور عميقة في تراثنا. وعصر الإسلام الذهبي كان أنموذجاً لحضارة متعددة الأعراق حققت خطوات تاريخية إلى الأمام في الجهود العلمية والتنمية المدنية. وفي القرن التاسع، علّمنا الكِندي، أبو الفلسفة الإسلامية، أننا يجب ألا ننأى بأنفسنا عن قبول الحقيقة برحابة صدر والسعي لاكتسابها، مهما كان مصدرها، وحتى لو جاءت من أمم وأعراق بعيدة تختلف عنا. ولم تكن في أيامه أي أبواب مغلقة.
واليوم، فإن التقاليد الإنسانية للإسلام هي المَعين الذي تُسْتقى منه القيم المحورية الرئيسية للمنطقة: الإيمان بالكرامة المتساوية لجميع البشر، وتبجيل حكم القانون، والسعي إلى التميّز، وإحقاق التسامح، والمساءلة الشخصية. وهذه القيم توفر الأساس لاقتصادات إبداعية مزدهرة، وبصورة أكيدة لحياةٍ ديمقراطية أيضاً.
الأردن شرع فعلاً في القيام بالإصلاحات الخاصة به، بما في ذلك الانتخابات، وإجراءات تعميق الحقوق السياسية والإنسانية وتجذيرها، من مثل حرية الاجتماع، وحرية الصحافة، ومبادرات تمكين المرأة والشباب. وهناك برامج أخرى تساعد على بناء نظام فعّال للأحزاب السياسية وتعزيز استقلال القضاء. وفيما يتصل بالشؤون الاقتصادية، تعلمنا من الأمثلة التي شهدناها في القرن العشرين، التي لا تُبْهج القلب. فمشروعات القطاع العام وحده لا يمكنها، ببساطة، توفير فرص كافية للجماعات السكانية المتنامية. وعلى الدول أن توجه أنظارها إلى القطاع الخاص لخلق الوظائف، وتحقيق الإبداع، وإقامة المشروعات.
وإستراتيجية التنمية لدينا تستمدُّ مكنوناتها من خبرات الدول الأخرى في الشرق والغرب. فالدول ذات الاقتصادات عالية الأداء في آسيا ومناطق أخرى تقدّم دروساً في النمو والمثابرة، مبيّنة أهمية الحرية الاقتصادية، والحاكمية الرشيدة، والاستثمارات الاجتماعية في ما ينفع الصالح العام، مثل التعليم. وفي ماليزيا، نشهد دولة إسلامية حديثة ترحّب بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويستمد النمو الوطني عناصر اندفاعه من الأفكار العَصْرية والمعرفة، التي جعلت ماليزيا منهما جزءا أساسياً من هويةٍ إسلامية تقدمية.
وفي أيرلندا، نرى بلداً أصغر يحقق الازدهار عندما يركّز على الموارد البشرية وأسواق التصدير. ومن خلال استهداف الاستثمار ذي التوجّه التصديري والتجاوب مع الأسواق المتغيرة، تضاعفت نسبة النمو في أيرلندا في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بين عامي 1960 و 2000
وقد تبنّى الأردن بعضاً من التوجهات المشابهة، من مثل حصر مرجعية التنمية والأعمال في مرجعية واحدة شبيهة بـ "فورفاس" في أيرلندا، وهو مجلس وطني يقدّم المشورة للحكومة حول التجارة والعلم والإبداع.
الإصلاحات في الأردن تؤتي أُكُلها. فقد انخفض الدين الخارجي، وازدادت الصادرات بصورة ملحوظة، وارتفع النمو الاقتصادي على مدى سنوات عدة. والنمو الفعلي للناتج المحلي الإجمالي وصل إلى 9,6 في المئة في الربع الأول من عام 2004
نعم، هناك تحدّيات أمامنا. والتغيير الهيكلي لا يتمّ بسهولة، والإصلاح على النطاق المحلي لا يأخذ مجراه في فراغ. والأردن، مثل بقية دول الشرق الأوسط، يحمل عبء النزاع العربي- الإسرائيلي، وهو عبء ثقيل. وهذه الدائرة من العنف شكلّت تهديداً للتنمية الإقليمية والاستقرار العالمي على مدى نصف قرن. والإصلاح في الشرق الأوسط لن يكون فعّالاً بصورة تامة دون الاستقرار والموارد اللذين يوفرهما السلام.
في سي آيلاند، في ولاية جورجيا، أعادت مجموعة الدول الثماني الصناعية، في حزيران الماضي، تأكيد التزامها بتسوية دائمة شاملة للنزاع العربي- الإسرائيلي، والتزامها بعراقٍ ديمقراطي يتمتع بالسيادة. كما عبّرت مجموعة الدول الصناعية الثماني بقوّة عن دعمها للإصلاح الذي ينبع من داخل العالم العربي، وأقرّت بالحاجة إلى مساعدة البلدان التي تقوم بعمليات إصلاح. ويمكن لهذه المبادرات وغيرها أن تساعدنا على تحقيق النتيجة التي نسعى إليها جميعاً: شرق أوسط مستقر، تظلّله الليبرالية، ومزدهر.
الإصلاح مستمر في المنطقة، والأنموذج الأردني، الذي قوامه تنمية ناجحة موجهة من الداخل، ومتجذّرة في التراث العربي الإسلامي، ومنفتحة في الوقت ذاته على الأفكار العالمية والشركاء العالميين، أنموذج يمكن أن ينجح، كما هو الحال. وهذا النهج في التنمية يمكن أن يساعد في تحويل منطقتنا من منطقة نزاع وعدم استقرار إلى منطقة تفتحُ لنا نوافذَ الفرصة والأمل.