مقابلة جلالة الملك عبدالله الثاني مع وكالة فرانس برس

١٢ أيلول ٢٠١٢

فرانس برس: جلالة الملك، ذكرت عدة قوى غربية أن الأردن وتركيا قد تدرسا إنشاء مناطق عازلة في سوريا. هل تفكر المملكة في اتخاذ مثل هذه الخطوة؟

جلالة الملك: لم يفكر الأردن بفرض منطقة عازلة، لكننا نحتفظ بحقنا السيادي في وضع كل الخيارات الممكنة في الإعتبار بما يضمن حماية مصالح وأمن المملكة. إن أول وأهم واجباتي حماية الأردن وحماية شعبنا، فقد شاهدنا الجيش السوري يطلق النار على المدنيين وهم يعبرون الحدود نحونا، كما سقطت قذائف سورية على الأراضي الأردنية. لذا فإن خياراتنا مفتوحة في حال وجود تصعيد في الأحداث. كما سيعمل الأردن دوما في إطار الإجماع الدولي والعربي، وبما ينسجم مع القانون الدولي.

وعليه، فإن أولويتنا تبقى في العمل على التوصل إلى حل قائم على انتقال سياسي سلمي ضمن إطار القانون الدولي. ويشكل هذا في نهاية المطاف خير ضمانة وهو بمثابة أفضل منطقة عازلة.

فرانس برس: نُقل على لسان بعض المسؤولين الأردنيين قولهم إن المملكة قد ألقت القبض على خلايا سورية، خصوصا في الشمال. هل هذا صحيح؟ ولو كان كذلك، ماذا كانوا يخططون لتنفيذه ومتى؟

جلالة الملك: لجأ إلينا منذ بداية الأزمة ما يقرب من 200 ألف سوري من الرجال والنساء والأطفال، وكانت معظم عمليات اللجوء تتم في الليل وعلى شكل مجموعات عائلية صغيرة. كان من المستحيل علينا التدقيق أمنيا على كل شخص يعبر إلى الأردن، وقد استقبلنا الجميع على أساس إنساني. لكن ما تقوله صحيح، فقد اكتشفنا أن عددا منهم لم يأت بحثا عن ملاذ آمن بل لتنفيذ مهام أخرى، منها جمع معلومات استخبارية عن اللاجئين، أو لتنفيذ مخططات تستهدف استقرار الأردن وأمنه. ودعني أقول ببساطة: إن الطريقة التي تتعامل بها سوريا مع جيرانها تشكل تصعيدا محتملا، نراقبه عن كثب.

فرانس برس: ذكرت وسائل إعلام أمريكية وغيرها أن القوات الأردنية والأمريكية تتدرب على تدخل عسكري في سوريا لتأمين أسلحتها الكيماوية. هل لديكم مثل هذه الخطط؟ وهل تعتقد أن بإمكان سوريا استخدام هذه الأسلحة؟

جلالة الملك: لو حدث وأن استخدمت سوريا أسلحتها الكيماوية ضد شعبها أو أية جهة أخرى، فإن هذا يعد خرقا واضحا للقانون الدولي، وأعتقد أن المجتمع الدولي سوف يرد بقوة وبشكل فوري. إننا في المجتمع الدولي نراقب بدقة شديدة كيفية تعامل الحكومة السورية مع أسلحتها الكيماوية.

أما بالنسبة لخطط الأردن، فأقول إن الجيش الجيد هو الذي يكون مستعدا لكل طارئ، والقوات المسلحة الأردنية دوما على سوية عالية ومتميزة من المهنية. ليس هذا هو المنبر الأنسب للحديث عن التفاصيل، لكن من واجبنا نحو شعبنا أن يكون لدينا خطط طوارئ لحمايته وضمان أمنه وسلامته.

فرانس برس: تطالب قوى غربية ودول عربية منذ فترة الرئيس بشار الأسد بالتنحي باعتبار ذلك السبيل لإنهاء الصراع. هل تؤيد هذا الرأي، أم تعتقد أن إنسحابه بوجود معارضة متفرقة قد يؤدي إلى المزيد من المشاكل لسوريا والمنطقة؟

جلالة الملك: لقد قلت منذ البداية إن المسألة لا تتعلق بفرد بل بنظام. فماذا سيستفيد الشعب السوري إذا غادر الرئيس بشار غدا وبقي النظام؟

أنا قلق جدا من إحتمالية تفكك سوريا، فقد شهدنا في الشهور القليلة الأخيرة زيادة في وتيرة العنف الطائفي، وهو أمر لا يهدد وحدة سوريا فقط، بل قد يكون مقدمة لإمتداد الصراع إلى الدول المجاورة ذات التركيبة الطائفية المشابهة. وقد شهدنا بالفعل إشارات على أن هذا الخطر يقترب أكثر فأكثر.

يجب أن نجد صيغة لعملية انتقال سياسية من شأنها أن تجعل جميع مكونات المجتمع السوري، بمن فيهم العلويون،  يشعرون بأن لهم نصيب ودور في مستقبل البلاد. إن عملية الانتقال السياسي الشاملة هي الوسيلة الوحيدة لوقف التصعيد، وهي في مصلحة الشعب السوري ومن شأنها أن تحفظ وحدة أراضي سوريا وشعبها. وتصب مثل هذه العملية كذلك في مصلحة الاستقرار الإقليمي والمجتمع الدولي.

فرانس برس: يعد رياض حجاب المسؤول السوري الأرفع مستوى ممن انشقوا إلى الأردن. من غيره سعى للجوء إلى الأردن؟ وهل ترى دورا لحجاب وغيره في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد؟

جلالة الملك: إن الدور المستقبلي لأي شخصية سياسية يقرره الشعب السوري لوحده. ومسؤوليتنا كمجتمع دولي هو العمل على إيجاد حل سياسي يوقف حمام الدماء، ويعيد الأمن ويضمن وحدة الأراضي السورية وشعبها.

أما بشأن الانشقاقات، فبإمكاني القول إن المئات من ضباط الجيش والأمن قد لجأوا إلى الأردن، ونحن نستجيب لكل حالة على حدة، ملتزمين بالمبادئ الإنسانية والقانون الدولي. هذا هو المبدأ الذي نطبقه منذ البداية، وسنبقى على نفس النهج. غير أن معظم من لجأوا للأردن هم من العائلات المستضعفة، ممن لا حول لهم ولا قوة.

فرانس برس: يستضيف الأردن حوالي 200 ألف سوري. هل تتوقع جلالتكم وصول المزيد من اللاجئين؟

جلالة الملك: نعم، وإنه لأمر مؤسف ومحزن ويصعب التعامل معه. لقد إستقبلنا في بعض الأحيان عدة آلاف من اللاجئين في ليلة واحدة. ويمكن لهذا الرقم أن يرتفع في الشهور القادمة، مع انزلاق سوريا إلى المزيد من العنف الطائفي. فالوضع الإنساني سيزداد سوءا مع اقتراب شهر الشتاء وبرد الصحراء القارص.

تعلمون أن الأردن قد أطلق بالشراكة مع ست منظمات تابعة للأمم المتحدة نداء استغاثة للمجتمع الدولي لتقديم مساعدات فورية. إذ أن هناك حاجة ماسة لتأمين أساسيات الحياة لتلك العائلات. والأردن قد تخطى سقف قدرته على استيعاب المزيد من اللاجئين. في البداية، كان معظم السوريين، الذين يعبرون إلى الأردن، يأتون للإقامة مع أقاربهم، حيث يوجد نحو 550 ألف سوري ممن تربطهم صلات نسب بعائلات أردنية. أما الآن، فإن معظم من يأتون يحتاجون إلى المأوى، مما دفعنا إلى إقامة مخيم الزعتري الشهر الماضي، وسوف نجهّز مخيما آخر قريبا. لقد تلقى أكثر من 30 ألف سوري العلاج في الأردن، سواء في المستشفيات أو المراكز الصحية، وتم توفير مطاعيم لحوالي 25 ألف طفل، والتحق بالمدارس الأردنية ما يقرب من 17 ألف طالب سوري.

من المؤكد أن كلفة ذلك مرتفعة جدا ولا نستطيع تأمينها لوحدنا، فالأردن يعاني من عجز كبير جدا في الموازنة، والسبب الرئيسي في ذلك انقطاع إمدادات الغاز المصري. كما أن الضغط هائل على البنية التحتية للخدمات وعلى الموارد المحدودة في البلاد. وعليه، فإن الدعم الدولي ذو أهمية حيوية، ونعتبر استجابة المجتمع الدولي حتى الآن إيجابية جدا، ونأمل أن تستمر على هذا المنوال.

فرانس برس: جلالة الملك، كيف تقيمون عملية الإصلاح في الأردن لغاية الآن؟

جلالة الملك: هناك تقدم حقيقي وملموس مقارنة مع العام الماضي. ومن ذلك تعديل ثلث الدستور، مع إضافة مواد من شأنها توسيع التمثيل السياسي، وحماية الحريات والحقوق المدنية، وتعزيز الفصل بين السلطات. وكذلك تم إنشاء محكمة دستورية مستقلة، فيما باشرت أول هيئة مستقلة للانتخاب أعمالها في التحضير للانتخابات القادمة. وهناك قوانين جديدة تسن، والمواطنون في كل مكان منخرطون في نقاشات حول القضايا العامة، فيما نظام الأحزاب السياسية لدينا يتطور ويتعزز.

ويكمن التحدي الآن في استمرارية دفع العملية الإصلاحية إلى الأمام. وباعتباري الضامن لعملية الإصلاح، فإنني أحث دائماً على الالتزام بإطار زمني محدد لإجراء الانتخابات، بحيث نتمكن من تحقيق نقلة تاريخية نحو تشكيل الحكومات البرلمانية. ومع بداية العام الجديد، سيكون لدينا برلمان جديد.

فرانس برس: وعدتم جلالتكم بانتخابات مبكرة وتجري حاليا عملية التسجيل للانتخابات. هل تعتقد أن الاضطرابات في سورية سوف تؤثر في الانتخابات؟

جلالة الملك: لن نسمح أن تكون التحديات الإقليمية عذرا يمنع المضي قدما في الإصلاح. ونحن واثقون بقدرتنا على التعامل مع العملية الإصلاحية بحيث لن تشكل التحديات الإقليمية ذريعة لتجاهل ما يريد الأردنيون تحقيقه، ألا وهو الاندفاع بقوة نحو الإصلاح. وسنستمر في هذه العملية وفي المساعي الهادفة لعقد الانتخابات مع نهاية هذا العام.

فرانس برس: جلالتكم، أعلن الإسلاميون ومجموعات معارضة أخرى مقاطعتهم للانتخابات العامة بسبب اعتراضهم على قانون الانتخاب الحالي. لقد سبق وأن طلبتم إجراء تعديل على القانون، فهل تنوون طلب المزيد من التعديلات؟

جلالة الملك: إن مسؤولياتي، ضمن نظامنا الملكي الدستوري، تحتم علي أن أكون راعيا لسائر القوى السياسية وكل فئات المجتمع. ومن منطلق تلك المسؤولية، فإنني أقول للإخوان المسلمين إنهم يسيؤون تقدير حساباتهم بشكل كبير. نحن ندرك أن قانون الانتخاب الحالي ليس مثالياً، لكن لا يوجد إجماع أفضل على قانون بديل. والأهم من كل شيء أن نستمر في التقدم إلى الأمام، وليسمعني الجميع بوضوح: سيكون لدينا برلمان جديد بحلول العام الجديد.

وحقيقة فإن سؤالك في غاية الأهمية، وهو سؤال مطروح على مستوى الوطن وموجه لجميع الأردنيين، ولذا أود أن أتوسع بإجابتي قليلا.

يريد الشعب الأردني أن يشهد أفعالا ملموسة على الأرض، وأن يرى الحكومات تحقق نتائج. ولعل الوسيلة الأفضل لإصدار قانون انتخاب هي تمريره كقانون مؤقت، لكن التعديلات الدستورية الأخيرة قيدت سلطة إصدار القوانين المؤقتة.

إن ما يجب التركيز عليه، في اعتقادي، هو الدستور الأردني والعملية الدستورية. فالقانون الذي بين أيدينا الآن هو نتاج تلك العملية، وقد أخذ في الاعتبار، عند وضعه، العديد من المصالح والاقتراحات والرؤى المتباينة والمطروحة من قبل مختلف القوى السياسية. لقد كان الجدال محتدما، وأنا شخصيا استمعت إلى ما يقرب من اثنتي عشرة رؤية ومقترح لأنظمة الانتخاب من مختلف القوى والأحزاب السياسية، يتبنى كل منها نظاما وقانونا انتخابيا مختلفا.

وعلى سبيل المثال، فقد اقترحت إحدى القوى التركيز على القوائم الوطنية، فيما اقترحت أخرى القوائم النسبية على مستوى الدائرة الانتخابية، وطرح آخرون فكرة إضافة صوت للكوتا النسائية، ونادى غيرهم بإضافة صوت لممثل على مستوى المحافظة. وهناك بعض الجماعات التي طالبت بإعادة رسم خريطة الدوائر الانتخابية، وطالب آخرون بعدة أصوات للناخب على مستوى الدائرة الانتخابية. وقائمة الاقتراحات تطول.

وطوال هذا الوقت ولغاية الآن، قوبلت كل الاقتراحات والمسودات، ابتداء من توصيات لجنة الحوار الوطني قبل أكثر من عام، وصولاً إلى المسودة التي اقترحتها الحكومة السابقة، بدرجات متفاوتة من الرفض من قبل الإخوان المسلمين، للأسف الشديد.

إن قانون الانتخاب الحالي تم إصداره بدرجة من الإجماع، ليست مثالية، ولكنه يتمتع بأعلى درجة من الإجماع الممكن في ظل تركيبة البرلمان في الوقت الراهن. وحتى توصيات لجنة الحوار الوطني لم تحظ بإجماع البرلمان الحالي. وقد مر القانون بكل المراحل الدستورية الواجبة. وقد أظهرت استطلاعات الرأي العام أنه يحظى بدعم من أغلبية جيدة قاربت ثلثي الأردنيين. لا يمكن تفصيل قانون على مقاس حزب سياسي واحد أو مجموعة تشكل أقلية، لكن صوتها هو الأعلى.

إن المؤمل دستورياً من الحكومة البرلمانية هو الآتي: أن يتم اختيار البرلمان القادم عبر انتخابات شفافة وحرة، مما يوفر الفرصة لهذا البرلمان لتعديل القانون وإعادة النظر في النظام الانتخابي بمجمله.

ومن شأن ذلك أن يضع العملية في مكانها الصحيح، أي بين أيدي الشعب الأردني نفسه، والذي سيقرر من خلال ممثليه المنتخبين شكل القانون الانتخابي القادم. وبعد ذلك، سوف يستمر الأردنيون في البحث عن الأفضل، والتطلع إلى برلمانات وحكومات متعاقبة يحققون من خلالها قوانين انتخاب جامعة أكثر وأفضل تمثيلاً مع كل دورة برلمانية. وسوف أحمّل البرلمانات القادمة مسؤولية الحفاظ على هذا المسار بطريقة تضمن تمكين كل المواطنين وترسخ المساواة في الحقوق على المستوى السياسي والاقتصادي.

وعليه، فرسالتي إلى كل الأحزاب والقوى السياسية فيما يتعلق بقانون الانتخاب، وما يتجاوزه إلى كل قضية تهم أي مواطن أردني هي الآتي: إن كنتم تريدون تغيير الأردن نحو الأفضل، فهناك وسيلة وفرصة لذلك، أما الوسيلة فهي من خلال البرلمان القادم، وأما الفرصة فتتأتى عبر الانتخابات القادمة.

ولتحقيق ذلك، يجب على المواطنين أن يشاركوا، وعلى الناخبين أن يسجلوا، ويجب على الأحزاب والقوائم أن تُنظم أنفسها. ولا بد أن يُبنى كل برنامج انتخابي لكل مرشح ولكل حزب لمدة أربع سنوات وأن يشرح للناخبين ليس مجرد السياسات التي يدعمها، بل أيضاً شكل الحوكمة التي يطمح لها، وطبيعة قانون الانتخاب القادم الذي يريده، والتعديلات الدستورية المطلوبة، إن وجدت، وكل الإصلاحات السياسية الأخرى المنشودة. وعندها سيقرر الناخبون ماذا يريدون عبر صندوق الاقتراع.

وعليه، فإنني أقول للإخوان المسلمين: هناك خيار أمامكم، إما أن تبقوا في الشارع أو تساهموا في بناء أردن ديمقراطي جديد.

فرانس برس: إذن، أنتم جلالتكم لا تميلون إلى تأجيل الانتخابات، كما طالب البعض؟

جلالة الملك: لا، ودعني أكون واضحا بما لا يدع مجالا للشك. لقد بدأ العد التنازلي للانتخابات فعلا، وعملية التسجيل تسير على قدم وساق، وقد تجاوزنا حد المليون بالنسبة لعدد المسجلين، وسيتم حل البرلمان، وسيعلن موعد الانتخابات، وسوف يكون لدينا برلمان جديد بحلول العام القادم.

وأود أيضاً أن أضيف هنا بأنني مدرك تماما لحقيقة أن بعض البرلمانيين والشخصيات تعمل لترويج انطباع بأن الانتخابات النيابية المبكرة لن تتم، وذلك للتأثير سلبا على عزيمة المواطنين للتسجيل للانتخابات. ودعني أؤكد هنا أننا سنعقد انتخابات مبكرة، وأنه يجب على كل مواطن ومواطنة أردنية ألا يسمحوا بمصادرة حقهم في التسجيل وبالتالي في الانتخاب بسبب هذا التضليل.

وبالنسبة للعملية الانتخابية، فإن الانتخابات ستُجرى ولأول مرة تحت إشراف وإدارة هيئة مستقلة. وتسجيل الناخبين يشكل خطوة ومحطة مهمة في خارطة الطريق الإصلاحية. وهذه هي المرة الأولى التي نقوم فيها منذ العام 1989 بإعداد سجلات ناخبين جديدة وتحت إشراف هيئة مستقلة للانتخاب. وقد اتخذت إجراءات جديدة وغير مسبوقة لضمان الشفافية والعدالة خلال جميع مراحل العملية الانتخابية، مما سينتج برلماناً أكثر تمثيلا.

إن الانتقال إلى الحكومة البرلمانية سيشكل لحظة تاريخية للأردن، والانتخابات القادمة هي المتطلب الأساسي لمثل هذا التحول.

إنها لحظة تاريخية لأن الانتخابات لن تقرر تركيبة البرلمان الجديد فحسب، بل ستحدد الحكومة البرلمانية أيضا. صحيح أننا لا نزال نفتقر إلى أحزاب سياسية قوية تمثل اليمين واليسار والوسط، لكن من المحتمل أن يتكون البرلمان القادم من عدة أحزاب سياسية وبعض المستقلين وبعض الكتل التي من المتوقع أن تشكل إئتلافات فيما بينها وتفرز حكومة برلمانية. وهذه الحكومة سوف تستمر في مكانها لدورة برلمانية كاملة ما دامت تحتفظ بالأغلبية، أي ستبقى تحكم لمدة أربع سنوات، أربع سنوات مفصلية في تاريخ الأردن السياسي. وأعتقد أن على كل ناخب أن يدلي بصوته ليقرر ماذا يريد أن يتحقق عبر هذه السنوات الأربعة.

وسوف يكون على الحكومة الجديدة أن تتعامل مع التحديات الهائلة التي تواجه المواطنين الأردنيين، ابتداء من البطالة، إلى أزمة الطاقة، والسياسة الضريبية، والضمان الاجتماعي، وقضايا المالكين والمستأجرين، والسياسة التعليمية وتحسين الخدمات الأساسية، وصياغة قانون الانتخاب القادم، وتعزيز منظومة النزاهة الوطنية ومحاربة الفساد. ولذا فإن التصويت في الانتخابات القادمة لا يعني فقط تحديد شكل البرلمان المقبل، بل الحكومة أيضا، وبالتالي التأثير في صياغة السياسات وصناعة القرار فيما يتعلق بالقضايا التي تهم كل مواطن أردني.

وعليه فإنني أدعو كل ناخب إلى طرح الأسئلة على المرشحين، أسئلة حول برامجهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسنوات الأربعة القادمة، فنحن بحاجة إلى نواب من أصحاب البرامج الانتخابية الواضحة التي تعالج هموم الناخبين، وتتجاوز الشعارات الرنانة. ونحن بحاجة لنواب يستطيعون، على سبيل المثال، أن يؤثروا في سياسات العمالة الوطنية التي تدعم فرصا حقيقية للشباب الأردني، وليس نوابا يتلقون طلبات التوظيف، ويَعِدُون بوظائف في القطاع العام المتضخم أساسا على أساس الواسطة والمحسوبية.

إن الربيع الأردني سيُتوّج بإجراء الانتخابات النيابية، والتي ستنقلنا إلى الصيف الأردني، موسم العمل الجاد والعطاء، وسيتزامن مع ولادة البرلمان الجديد، وستكون انطلاقته من تحت قبة البرلمان القادم في صيف أردني يمثل موسم حصاد للبناء على ما تم إنجازه من إصلاحات تاريخية تحققت حتى الآن.

فرانس برس: أصدرتم الأسبوع الماضي توجيهات بتجميد قرار حكومي غير شعبي برفع أسعار الوقود. من الواضح أن هذه الخطوة من قبل جلالتكم لقيت ترحيبا من قبل الناس، لكن البعض يسأل من أين للحكومة أن تأتي بالمال الآن، وكيف سيوفي الأردن بوعوده للدول المانحة.

جلالة الملك: لقد تدخلت وطلبت من الحكومة أن تجمد رفع أسعار نوعين من مشتقات الوقود لأنني أتفهم المصاعب التي تواجه الأسر الأردنية في هذا الوقت الذي نعاني فيه من أزمة اقتصادية. فالفواتير تأتي نهاية كل شهر وترتفع قيمتها، دون أن تنمو فرص العمل والرواتب بشكل مواز.

وفي الوقت ذاته أتفهم أن الحكومة تواجه معضلة كبيرة، وتجد نفسها بين المطرقة والسندان. لا بد لنا أن نجد حلولا فورية لوضع حد للعبء الذي يلقي به الدعم الحكومي الشامل على الموازنة والاقتصاد، وهو عبء كبير حقا، ولكن بدون زيادة المصاعب الاقتصادية التي يعاني منها الكثير من الناس.

ودعني أؤكد هنا أن أصدقاءنا في المجتمع الدولي سيساعدوننا فقط إن ساعدنا أنفسنا أولاً. فالمانحون والمقرضون يطالبوننا برفع الدعم. وفي الحقيقة إن هذا الدعم هو أحد أسباب عدم وصول المساعدات الموعودة للأردن. ولو وجدنا طريقة نرفع بها الدعم ونستطيع في الوقت نفسه حماية الفئات ذات الدخل المتدني وعدم المساومة على هدفنا الاستراتيجي المتمثل في دعم الطبقة الوسطى، فإن المساعدات سوف تتدفق بيسر أكبر إلى الأردن ويستفيد منها كل الأردنيين. وهذا هو ما دفعني إلى طلب إعادة توجيه الدعم الشامل بحيث يذهب إلى الفئات التي تستحقه فقط.

بالرغم من الإنجازات التي تحققت في مجال الإصلاح الاقتصادي في العقد الماضي، دعونا لا ننسى هنا أن اقتصادنا نما بمقدار ثلاثة أضعاف منذ عام 2000، إلا أننا لا نزال نعتمد على المساعدات. لقد وجهت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ضربة كبيرة لاقتصاديات دول هي أقوى بكثير من اقتصادنا. ولكن الضربة الأكبر التي تلقيناها تمثلت في أزمة الطاقة في وقت ارتفعت فيه أسعار الطاقة والغذاء بشكل غير مسبوق. ولا يمكن أن يحدث أسوأ من هذا لبلد يستورد 96 بالمئة من احتياجات الطاقة و87 بالمئة من غذائه. بعد ذلك خسرنا إمدادات الغاز من مصر إثر تعرض أنبوب نقل الغاز في سيناء لأكثر من 14 عملية تفجير منذ شباط 2011، فيما بلغت نسبة ضخ الغاز من مصر حوالي 16 بالمئة من الكميات المتعاقد عليها هذا العام و30 بالمئة العام الماضي. وقد ضاعف هذا التطور الخارج عن السيطرة فاتورة الطاقة لدينا، وجعل عجز الموازنة يصل إلى مستويات غير مسبوقة.

وأريد هنا أن أؤكد وبمنتهى الوضوح: إن السبب الأول والرئيس لارتفاع عجز الموازنة وتراكم الدين العام بشكل غير مسبوق يعود إلى الانقطاعات المستمرة في التزود بالغاز المصري، في وقت شهدت فيه أسعار الطاقة والغذاء ارتفاعا تاريخيا على مستوى العالم.

لقد ظلت قضية الطاقة في الأردن تاريخيا مشكلة كبيرة، علينا التحرر من قيدها الخانق وزيادة الاعتماد على الذات. والوسيلة الوحيدة للخروج من موطن الضعف هذا هو من خلال تنويع مصادر الطاقة. وفي هذا السياق، فإننا نستكشف الغاز في المنطقة الشرقية. كما أن الأردن يعد مكانا مثاليا لإنتاج الطاقة الشمسية وقد بدأنا باستغلالها، فيما تشكل طاقة الرياح مصدرا آخر للطاقة. والجزء الآخر من الحل هو برنامج الطاقة النووية السلمي الذي نقوم بتنفيذه. ويظل مبدأ إعادة توجيه دعم الطاقة لمن هم بأمس الحاجة له خطوة في غاية الأهمية.

وكما قلت مسبقا، فإن البرلمان الجديد والحكومة البرلمانية المنبثقة عنه كمحصلة للانتخابات القادمة، سوف يتعاملان مع تحدي الطاقة لإيجاد الحلول الضرورية لأن هذه القضية تمس حياة كل الأردنيين. ولذلك، فعلى المواطنين أن يصوتوا في الانتخابات، وأن يختاروا المرشحين والقائمة الوطنية التي تقدم البرامج والحلول الصحيحة.

فرانس برس: لكن هناك معارضة للبرنامج النووي وقد خرجت مظاهرات مناوئة له.

جلالة الملك: هذا صحيح، وأنا أتفهم المعارضين للبرنامج النووي بسبب مخاوف متعلقة بالسلامة، أو بسبب قناعات فلسفية. ودعني أقول بداية إنه بالنسبة لبلد صغير مثل بلدنا، فإن السلامة على كل المستويات يجب أن تكون الأولوية الأولى، وستظل دائما كذلك.

ولكن يجب أن ندقق في كيفية استخدام الطاقة النووية بأمان وفعالية لتلبية احتياجات شعبنا الملحة. فالأردن يمتلك 3 بالمئة من مصادر اليورانيوم في العالم، وعليه فإننا نملك موردا طبيعيا يجعل من خيار الطاقة النووية قابلا للتطبيق وذا جدوى، وسوف يمنحنا درجة من الاعتماد على الذات.

وعلينا أن نضع في الاعتبار أيضا أن الأردن رابع دولة على مستوى العالم من حيث شح المياه، وبالتالي فإن تحلية مياه البحر ستكون قريبا إحدى الأولويات. وسوف تكون الطاقة النووية مصدرا موثوقا وأقل كلفة لعملية التحلية.

وتأتي المعارضة الأشد لبرنامج الأردن النووي من إسرائيل. فعندما بدأنا الإعداد للحصول على طاقة نووية لأغراض سلمية، تواصلنا مع بعض الدول ذات المستوى المتقدم من العمل المسؤول في هذا المجال ليتعاونوا معنا. ولم يمض وقت طويل حتى أدركنا أن إسرائيل تمارس الضغط على هذا الدول لإعاقة أي شكل من التعاون معنا. ففي كل مرة يتوجه وفد أردني للاتصال بشريك محتمل، نجد وفدا إسرائيليا يتوجه للشريك نفسه بعد أسبوع، ويطلب من الطرف الذي نتفاوض معه عدم دعم خطط الأردن للحصول على الطاقة النووية.

في ضوء ما ذكرت، فإنني أشعر أن من يعارضون برنامجنا النووي السلمي لأسباب مغلوطة، هم يحققون المصالح الإسرائيلية بنجاح يفوق قدرة إسرائيل على ذلك لوحدها.

أما بالنسبة للمعارضة الداخلية البنّاءة، فأنا أتفهم الناشطين ومخاوفهم المتعلقة بالسلامة العامة، وهذا حقهم. لكن الأردن لن يختار إلا أحدث جيل من المفاعلات النووية وأكثرها أمانا. وهذه المفاعلات أكثر أمانا بكثير من الأجيال السابقة ولها مزايا متعددة تساعدها على تحمل الظروف القاسية. وبالنسبة لكارثة فوكوشيما في اليابان فقد كان المفاعل المستخدم من الجيل القديم. وبالطبع فإن أية محطة نووية سوف تبنى في أقل المواقع عرضة لخطر الزلازل وأكثرها أمانا. وبالمناسبة، ربما لو كانت المنطقة الشمالية الشرقية في المملكة، كما يبالغ البعض، معرضة لخطر تسونامي، لكان لدينا سبب للقلق أكبر بكثير من وجود محطة نووية!!!

لقد سمعت أيضا معارضين للبرنامج يقولون إن الاعتماد على الطاقة النووية في طريقه للزوال وإن البلدان الأخرى تغلق محطاتها النووية. لكننا في الحقيقة نجد أن المزيد من المحطات النووية تبنى في كافة أنحاء العالم، فالدول تعلم أن شعوبها تحتاج إلى الطاقة.

إن مسألة الكلفة مهمة. وليس هناك خلاف على أن الطاقة النووية هي من أحد أرخص مصادر الطاقة المتوفرة. أما بشأن كلف بناء المحطات النووية، فعلينا أن ننظر في هذه المسالة بجدية. ودعني أعقد مقارنة بسيطة: إن التكلفة المتوقعة للمحطة النووية التي تسعى الحكومة لبنائها تبلغ ما يقرب 3.5 مليار دينار وتشكل ثلث السعة الكلية للطاقة النووية التي يستطيع الأردن إنتاجها. وفي المقابل، فقد كلفتنا الانقطاعات في أنبوب الغاز المصري عبر السنتين الماضيتين ولغاية الآن 2.8 مليار دينار، وهو مبلغ كان يمكن أن يغطي تقريبا كلفة إنشاء مفاعل نووي.

فرانس برس: سؤال أخير جلالة الملك. توليت العرش قبل 13 عاما. ما هو أكبر التحديات التي واجهتها؟ وما هو أهم شيء تعلمته خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية؟

جلالة الملك: كنا معتادين في الجيش على تنفيذ الأوامر حسب جداول زمنية واضحة. لذا شكل هذا الأمر تحديا لي: أي أن أحافظ على صبري في المواقف الدبلوماسية أو السياسية عندما لا تتحقق الأهداف بالسرعة التي أريدها. لقد كان شرفا لي أن أؤدي قسمي الدستوري، وأخدم بلدي وأن أحقق النتائج لصالح شعبي ولا تزال تلك أولويتي.

ولا بد لي من القول إن الدرس الذي تعلمته يكمن في قدرة الأردنيين على الصمود، خصالهم، وقدرتهم على النجاح رغم كل العوائق والموارد المحدودة. لقد شاهدت أردنيين يحققون إنجازات مثيرة للإعجاب، فنحن قادة المنطقة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصناعات الدوائية والتعليم والصحة، ونحن ننتج وندير 75 بالمئة من محتوى الإنترنت باللغة العربية إقليميا، وقد تحقق ذلك رغم أننا لا نشكل إلا 2 بالمئة من عدد سكان المنطقة.

وحتى في هذه الظروف الحالكة من الأزمة الاقتصادية، لا تزال تصنيفاتنا الدولية في مجال الصحة والتعليم تحقق قفزات كبيرة. عالميا وإقليميا، يحظى رجال الأعمال الرياديين من ذوي الرؤية ومواهبنا الشابة المبدعة وأطباؤنا ومهندسونا وجنودنا بالتقدير والاحترام. وعندما أزور جنودنا في الحدود الشمالية وأشاهد العمل الرائع الذي يقومون بها لإنقاذ الأرواح، أو عندما أسمع عن الإنجازات الهائلة لجنودنا ورجال الشرطة الأردنيين في أفغانستان ومناطق ساخنة أخرى في العالم، ينتابني شعور غامر بالفخر.

وقد شعرت بالاعتزاز أيضا عندما صافحت رجل أعمال أردني ريادي أصبح ثاني أكبر مصدر للطبشور في العالم، بعد أن بدأ مشروعه بقرض يبلغ 30 ألف دينار، والتقيت مع العديد من الرواد القياديين الآخرين، ولدي ثقة تامة بالأردنيين وقدراتهم.

وللأسف فإن كثيراً من القصص الجيدة والناجحة في مجتمعنا لا تلقى مكانا في وسائل إعلامنا، فبعض وسائل الإعلام تحيد عن تقديم تغطية إعلامية متوازنة، في حين تنظر بعضها فقط إلى موضوع الحرية، وتترك النصف الآخر وهو المسؤولية، وهذا أمر مؤسف. كما تجاوزت بعض وسائل الإعلام الأمر إلى حد بعيد، فمارست الابتزاز والتهديد لمكاسب شخصية وتنفيذا لأجندات خاصة.

ورغم أنك لا تسمع عن قصص النجاح من إعلامنا ولا من بعض الدوائر السياسية والنخب المثقفة الذين لا يرون إلا النصف الفارغ من الكأس، إلا أنني عندما أذهب إلى المحافظات أو أجلس مع منتسبي جيشنا والشباب في أي مكان في البلاد، فإنني امتلئ بالفخر والأمل. وذلك هو مصدر قوتي التي استمد منها العزم كل يوم، وشكرا.