مقابلة جلالة الملك عبدالله الثاني مع صحيفتي الرأي والجوردن تايمز

٥ كانون أول ٢٠١٢

أجرى المقابلة: سمير الحياري وسمير برهوم
المؤسسة الإعلامية: صحيفة الرأي وصحيفة الجوردان تايمز

 

سؤال: جلالة الملك، رافق قرار الحكومة برفع الدعم عن المشتقات النفطية مسيرات واحتجاجات تخلل بعضها عنف وتخريب واعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وهي ظاهرة لم نعتدها. ما رأي جلالتكم فيما جرى؟

جلالة الملك: لا شك أن القرار كان صعبا للغاية على المواطن، وهناك تحديات اقتصادية حقيقية، وأنا أدرك حجم معاناة المواطنين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود والمتوسط.

كما أنني أشعر بالفخر حقيقة أن غالبية التظاهرات كانت سلمية وملتزمة بالدستور والقانون، وكانت حضارية في التعبير، وهي تؤكد أن الربيع العربي مختلف في الأردن وتدل على مدى الوعي الذي يتمتع به شعبنا، خاصة في المبادرات الذاتية والعفوية لمنع الشغب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، والتي تؤكد مدى التحام الشعب والدولة في الحفاظ على المقدرات والإنجازات.

لكنني أشعر في ذات الوقت بالأسف لما قامت به فئة قليلة من أعمال مرفوضة بالمطلق ضيَّعت الفرصة أمام الآخرين للتعبير عن مشاعرهم بطريقة حضارية وسلمية في أجواء آمنة، وأنا على قناعة تامة بأنه إذا أردنا ترسيخ النهج الديمقراطي وتجذيره في بلدنا، فلا بد أن يمارس المواطن حقه في التعبير الذي كفله له الدستور، وهو ليس منّة من أحد، وليس لأحد أن يصادر هذا الحق. مناخنا ديمقراطي ومتسامح، وهناك قلة تحاول الإساءة والمساس بهيبة الدولة وإلحاق الأذى بمصالح المواطنين. المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يحترم النظام والقانون وسيادتهما ويحرص على المصلحة العامة. ومن الضروري هنا الإشادة بالدور المهني والحضاري للأجهزة الأمنية، التي أثبتت انضباطا واحترافا وعزماً في السهر على حماية المواطنين وحقوقهم الدستورية بالتعبير عن الرأي، وضمان سلمية المظاهرات والمسيرات بأداء رفيع يشهد به القاصي والداني.
 
أعلم أن الهم الأكبر للمواطن هو في تأمين احتياجات أسرته وتوفير الأساسيات، وأنا باستمرار أفكر بهموم جميع الأردنيين، فما يقلقهم يقلقني. لكن في ظل تفاقم الظروف المالية الصعبة للموازنة العامة وفي آخر سنتين تحديداً بسبب انقطاع الغاز المصري والذي كلفنا حتى الآن ما يقارب 5 مليارات دولار من عجز ومديونية إضافية، وفي ضوء تلازم قرار رفع الدعم مع إعادة توجيهه إلى مستحقيه، خاصة من ذوي الدخل المحدود والمتوسط، فمن غير المعقول أن يستمر دعم الطبقات الغنية وغير الأردنيين ومؤسسات اقتصادية ربحية كبرى. كما أن جميع الدول العربية التي تعيش نفس التحديات اتخذت إجراءات مشابهة، وبالمحصلة، اتضح، كما بينت الحكومة، أنه لم يكن هناك أية بدائل أخرى سوى الانحياز لمصلحة الوطن لعبور هذه الأزمة، والتي تضمن مصلحة المواطن على المدى البعيد.

المواطن الأردني دوماً ضحّى وعلى مدى عقود من أجل بناء الدولة الأردنية الحديثة، وتحمَّل بكل صبر وكبرياء ووعي ومسؤولية الأعباء الناجمة عن تحديات كل مرحلة، وذلك انطلاقاً من إيمانه بوطنه وحبه له في كل المراحل وتحت مختلف الظروف. وأنا على قناعة تامّة بأن الأردن، شعباً وقيادة، مستمر في جهود البناء والتنمية وتحسين نوعية حياة المواطنين. بالمقابل، فإن المطلوب من الحكومة، الآن وباستمرار، هو التأكد من أن آلية توجيه الدعم حققت أعلى درجات العدالة الاجتماعية وأنها ترسخ قيم التكافل الاجتماعي، وأن الشكاوى المحقة أُخذت بعين الاعتبار، وأن تطوير آليات الدعم مستمر، وأن جميع الجهود تبذل حقيقة لتخفيف أعباء أي شريحة أو فئة من أبناء وطننا الغالي.

وبالرغم من الظروف الصعبة التي نمر بها، إلا أنني متفائل بالمستقبل، وسنتجاوز الأزمة بإذن الله، والطريق واضح: ضبط الإنفاق الحكومي، ومعالجة أزمة المالية العامّة، وترشيد الاستهلاك بشكل عام وفي قطاع الطاقة بشكل خاص، واعتماد مبدأ إيصال الدعم لمستحقيه، وتعزيز جهود مكافحة الفساد والمساءلة والمحاسبة، ووقف ومنع أي هدر للمال العام. ولا بد أيضاً من تركيز الجهود على تنمية المحافظات من خلال التوجه نحو أسلوب اللامركزية التي تتكامل في أدائها مع الإدارة المركزية للحكومة وبما يعزز توجهات تجذير الديموقراطية المحلية، التي ستساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية وفي رفع مستوى معيشة المواطن ونوعية حياته. كل هذه الإجراءات ضرورية للوصول إلى المزيد من الاعتماد على الذات، وتحقيق استقلالنا المالي الذي سيحصن قرارنا السياسي. ولدينا العقول والقدرة والعزيمة على الإنجاز مهما كانت التحديات. الأهم في المرحلة المقبلة هو توفير المناخ الإيجابي الذي يحفز على الابتكار والإبداع في المجالات المختلفة، ولهذا يجب أن تكون هناك مراجعة متواصلة للسياسات للوقوف على مكامن الخلل وتصحيحها. وكل هذه الرؤى ستكون في صلب عمل مجلس النواب القادم والحكومة المنبثقة عنه.

إن الوضع الاقتصادي الذي نمر به يتطلب من الجميع إدارة موارد الدولة بمنتهى الشفافية والمسؤولية حتى يطمئن المواطن إلى أن صبره على الظروف الصعبة والتحديات سيترجم بمسؤولية أكبر من قبل الدولة في التصرف بحصافة في المال العام، وترجمة لهذا الحرص سيتم إطلاق منظومة للنزاهة الوطنية وإيجاد ميثاق ملزم للجميع يكرس النزاهة قولا وعملا في العمل العام، ويضمن أعلى درجات المسؤولية والشفافية والمساءلة في إدارة المال العام وضمان عدالة توزيع الموارد، والاستمرار في جهود مكافحة الفساد وتسريعها، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في الفساد أمام القضاء النزيه العادل. وهنا أريد أن أوضح أن الفساد فاقم الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية التي نواجهها، ومعالجة الفساد – وهي أولوية ملحة وماضون بها بعزيمة لا تلين – لن تكون لوحدها قادرة على حل الأزمة كما يظن أو يروّج البعض، بل هناك ضرورة لإجراءات فعلية مرتبطة بالسياسات العامة كما أسلفت، ولكنني أؤكد أنه لن يكون هناك سكوت أو تقاعس في مكافحة الفساد واجتثاثه من جذوره.

سؤال: جلالة الملك، الإصلاح السياسي يمضي بالتوازي مع الإصلاح الاقتصادي. الجميع يتابعون تطور التحديات الاقتصادية. كيف تقرأون الواقع الاقتصادي اليوم وتأثيره على مساعي الإصلاح السياسي؟

جلالة الملك: لقد وجهت في كتاب التكليف الحكومة للاستجابة للتحديات الاقتصادية بحزمة من الإجراءات. فمن الضروري ابتداءً أن تحرص الحكومة وجميع مؤسسات القطاع العام على تطبيق أعلى درجات الانضباط المالي، والاستخدام الأمثل للموارد. ومن المهم أيضاً حماية الطبقات الفقيرة وذات الدخل المحدود عبر تعزيز أدوات شبكة الأمان الاجتماعي، والاستمرار في تعزيز آليات إضافية لتوجيه الدعم لمستحقيه.
ولا بد أيضاً من تسريع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية الضرورية لتحسين البيئة الاستثمارية، واستقطاب استثمارات محلية وأجنبية نوعية مولدة لفرص العمل للأردنيين، وتوظيف خاصية الاستقرار السياسي والأمني في إقليم مضطرب كميزة لجذب الاستثمار.

لكن يبقى هناك استحقاق آخر يتمثل في تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي لإزالة الاختلالات والتشوهات الاقتصادية والمالية، وزيادة الاستثمارات لتحريك النمو الاقتصادي. ومن الضروري أيضاً إيجاد نوافذ تمويلية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة في المحافظات، وتشجيع المشاريع الريادية عبر القروض الميسرة وتوفير مبادرات التمكين والتدريب وحاضنات الأعمال التي تقوم بالشراكة بين القطاعين العام والخاص. وسيلعب صندوق تنمية المحافظات دورا رئيسا في هذا الأمر.

ولن نسمح بأن تتحول التحديات الاقتصادية وأولوية الإصلاحات التي تعالج هذه التحديات إلى عذر للتباطؤ في تنفيذ الإصلاحات السياسية الحتمية في ضوء الاستحقاقات الدستورية، والتي أنجزنا منها حزمة متقدمة تمثلت في تعديل الدستور، وإنشاء المحكمة الدستورية، وإنشاء الهيئة المستقلة للانتخاب، وتطوير القوانين السياسية، وستجرى الانتخابات النيابية المبكرة في موعدها في 23 كانون الثاني 2013، وينبثق عنها برلمان لمدة أربع سنوات، تمهيدا لإرساء مفهوم التحول نحو الحكومات البرلمانية.

سؤال: جلالة الملك، الإصلاح السياسي هو حديث الساعة. هل أنتم راضون عما تم إنجازه في مسيرة الإصلاح حتى الآن؟

جلالة الملك: الرضا التام غاية لا تدرك، ودوري هنا هو أن أضمن الوصول إلى أعلى درجات التوافق الذي يخدم الوطن والمواطن، والتأكد من أن ما نطمح الوصول إليه يحظى بقبول الأغلبية، مع احترام رأي الأقلية، فالتحدي الحقيقي في أي عملية إصلاحية هو بناء الإجماع والمحافظة عليه.

أنا أنظر إلى ما أنجز من إصلاحات تمثلت في التعديلات الدستورية، والمحكمة الدستورية، والهيئة المستقلة للانتخاب، وتطوير القوانين الناظمة للحياة السياسية، وصولاً إلى انتخابات مبكرة في كانون الثاني المقبل، ومن ثم بدء تجربة الحكومات البرلمانية بما يستجيب لتطلعات الشعب وطبيعة البنية السياسية الأردنية، كل هذه الإنجازات أنظر لها كمرحلة أولى تعطينا دفعة قوية ولكنها ليست نهاية المطاف على طريق التحول الديموقراطي.

سؤال: ولكن عندما يُقارن أداء الأردن الإصلاحي بمحيطه العربي، فهناك دول، كما يدعي البعض، أسرع في الإصلاح، هل توافق على ذلك جلالتكم؟

جلالة الملك: كانت هنالك دائما انتقادات لوتيرة الإصلاح في الأردن ومقارنتها مع دول شقيقة تعيش تجربة التحول الديموقراطي بفعل الربيع العربي. كان هناك مقارنات بين الأردن وتونس ومصر والمغرب، من حيث وتيرة وحجم الإصلاحات، ولكن ما يتم إغفاله في كل ذلك هو جوهر المنجز الإصلاحي واستدامته واستقراره.

فهناك دول سارعت لإجراء انتخابات ثم تباطأت وتيرة الإصلاح فيها بسبب صعوبة الخوض في تعديل الدستور وتحقيق التوافق على القضايا الكبرى حتى بوجود مجالس تشريعية منتخبة، كما أن بعض هذه الدول يعاني من هشاشة البنية الحزبية وبالتالي صعوبة تشكيل حكومات مُمَثٍّلة وتتبنى نهج التعددية، ولكل دولة خصوصيتها بالطبع. نحن في الأردن كانت وتيرة الإصلاحات منسجمة مع أولوياتنا السياسية الوطنية وجاءت من رحم المؤسسات الدستورية وقنواتها. فقد أُجرِيَت تعديلات جوهرية شملت ثلث الدستور، وأُنجِزَت حزمة من القوانين الناظمة للحياة السياسية، وأُنشِئَت مؤسسات رقابية وديموقراطية جديدة، وصولا إلى إجراء الانتخابات في 23 كانون ثاني القادم. وستؤتي هذه الرزمة من الإصلاحات أكلها في نظري بانتخاب مجلس نيابي جديد وفق أعلى درجات النزاهة والشفافية لإرساء مفهوم التحول نحو حكومات برلمانية مُساءَلة من قبل الشعب، وهي خطوة أساسية لترسيخ هذا النهج السياسي والبناء عليه مستقبلا.

سؤال: فما هو إذا تصور جلالتكم النهائي لشكل الإصلاح؟

جلالة الملك: مستقبل الإصلاح في الأردن هو بأيدي الناخبين وأصواتهم التي سيدلون بها في الانتخابات مطلع العام القادم، فهم سيحددون شكل البرلمان والحكومة القادمين. وأهم ما نريد ترسيخه هو عملية مساءلة الناخبين للنواب والحكومة المنبثقة عن البرلمان القادم من حيث التزامهم ببرامجهم الانتخابية، ووضع الحلول لمختلف التحديات، ويجب أن يترسخ المفهوم التالي لدى المواطن: وهو أن المساءلة والمشاركة السياسية لا تنتهي بالاقتراع، بل هي عملية مفتوحة ومستمرة عبر رقابة أداء النواب ووضعهم أمام مسؤولياتهم.

لا يوجد مرحلة نهائية سيتوقف معها سعينا إلى الإصلاح. فالإصلاح عملية مفتوحة للتطوير والتحسين المستمرين تلبية لطموح الشعب. لدينا، على سبيل المثال، قانون انتخاب تم تطويره إلى مستوى معيّن في هذه المرحلة الإصلاحية وضمن القنوات الدستورية، لكنه يبقى مفتوحا للنقاش الوطني والتطوير والتغيير من خلال الدورات البرلمانية القادمة. وأنا أدعو الأردنيين جميعا للتفكير في قانون الانتخاب وكيفية تغييره من تحت قبة البرلمان، ومن خلال النظر إلى الجوانب التالية: هل يتم رفع عدد المقاعد المخصصة للقوائم الوطنية؟ أم يتم إعادة رسم الدوائر الانتخابية؟ أو مثلا يتم الوصول إلى صيغة تدمج بين هذين التوجهين؟ وهل يتم الإبقاء على صوت محلي واحد للناخب، أم يُرفع عدد الأصوات المحلية، أم يتم التوجه نحو القائمة النسبية على مستوى الدائرة الانتخابية المحلية؟ المهم هو الاستمرار في تطوير قانون الانتخاب بشكل ديموقراطي من خلال المؤسسات الدستورية ليعبر عن رغبة الأغلبية، وليصبح أكثر تمثيلا وأكثر عدالة، وأفضل تمكيناً للأحزاب، ولتشكيل الحكومات البرلمانية، وبما يضمن المحافظة على مبدأ التعددية.

أمّا بالنسبة لمرحلة ما بعد الانتخابات القادمة، فهي تمثل برأيي مرحلة جديدة من الإصلاحات بوابتها البرلمان الجديد، ننتقل عبرها كما قلت من الربيع الأردني إلى الصيف الأردني، فصل النضج والحصاد، حيث سيبدأ البرلمان القادم الاستجابة إلى أولويات إصلاحية وقضايا وطنية جديدة منها: تقوية وتمكين المؤسسات الدستورية والارتقاء بأدائها، وتسريع إجراء التعديلات التشريعية الضرورية لمواءمتها مع التعديلات الدستورية الأخيرة، وتفعيل سيادة القانون، وترسيخ استقلال القضاء، وتعزيز منظومة النزاهة الوطنية، والاستمرار في حماية الحريات الإعلامية المسؤولة، وإصلاح القطاع العام، وتسريع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يحقق نهضة وطنية من البناء والتجديد تنسجم مع متطلبات المرحلة القادمة. وهذه مسؤوليات جماعية لا بد من حرص الناخبين ومؤسسات المجتمع المدني على مساءلة البرلمان والحكومة ومراقبة أدائهما للوقوف على مدى النجاح في تحقيقها.

سؤال: جلالة الملك، نتلمس دائماً حرصكم على ربط انتخاب البرلمان القادم بتشكيل حكومة برلمانية، ولكن، ما هي طريقة تشكيل الحكومات بعد الانتخابات القادمة، وهل سينتهي التغيير السريع في الحكومات الأردنية؟

جلالة الملك: إن الوصول إلى الحكومات البرلمانية في ظل المرحلة الانتقالية التي نمر بها يتطلب جهودا على مرحلتين: مرحلة الانتخابات بحيث يتم التأسيس لنهج الكتل السياسية التي تتنافس على الانتخابات منذ مرحلة الترشح، ومرحلة ما بعد الانتخابات المتمثلة بنهج التكتلات النيابية، ونهج التشاور مع مجلس النواب لاختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة.

سأعمل في المرحلة الحالية، أي مرحلة الترشح للانتخاب، لحث الراغبين بخوض الانتخابات على تشكيل كتل سياسية تتكون من قوائم وطنية ومرشحين على مستوى المحافظات، أي الدوائر الانتخابية المحلية. ونتمنى أن تشكل هذه الكتل السياسية توجهات تعكس اليسار واليمين والوسط، وأن تُبنى على أسس برامجية لمعالجة التحديات التي تواجه الأردن. وبالنسبة للقوائم الوطنية تحديداً، ومن خلال ما ألمسه من تواصلي الدائم مع مختلف القطاعات والقوى، فإن تشكيلة القوائم الوطنية يجب أن تكون مُمَثِّلة لكل مناطق المملكة. وهناك جزئية أود توضيحها بهذا الخصوص، وهي من بين الأفكار التي أثيرت خلال الكثير من لقاءاتي التواصلية والسياسية مؤخراً. فهناك تساؤلات حول آلية تشكيل القوائم، خاصة وأنها ممارسة جديدة، وكيفية التوافق على ترتيب الأسماء، خاصة وأن الأسماء الأولى في القائمة ستكون ذات نصيب أعلى بالفوز في النيابة. فالمرشحون على القوائم الوطنية يمكنهم ترتيب أدوارهم، بحيث ترد الأسماء المتوقع نجاحها في أعلى القوائم، أما الأسماء الأخرى، فتكون في حال عدم نجاحها معبرة عن الشخصيات التي تلجأ القوائم إلى اقتراحها لتمثيلها في الحكومات، خاصة وأن هناك حرصاً لمسته أيضاً من خلال جولاتي وتواصلي بضرورة عدم الجمع بين النيابة والوزارة، ولعدة أسباب منها تفادي تجارب سلبية سابقة عند الجمع بينهما، ولكن السبب الأهم يتمثل في تعزيز مبدأ الرقابة والفصل بين السلطات، خاصة التنفيذية والتشريعية، خصوصا في المرحلة الانتقالية التي ستلي الانتخابات القادمة.

وفي نهاية المطاف، فان تحقيق رؤيتنا المستقبلية للحكومات البرلمانية يعتمد على مدى نضوج الحياة الحزبية بتعدديتها بحيث نصل إلى مرحلة يبرز فيها ائتلاف برلماني يتمتع بالأغلبية تنبثق عنه الحكومة، ويقابله ائتلاف برلماني معارض يتصدّى لممارسة الدور الرقابي، ضمن مفهوم "حكومة الظل" كما في الديموقراطيات البرلمانية المتقدمة، وتتنافس الائتلافات المبنية على أساس حزبي على تداول الحكومات من خلال صناديق الاقتراع.

قد يرى البعض أن هذا التصور بعيد المنال، لكنه ليس كذلك، ونريد حقيقة الوصول إليه بأسرع وقت وأقصر عدد ممكن من الدورات الانتخابية، والجوهر الأساسي لهذه الرؤية هو مأسسة عملية المعارضة وتداول الحكومات، التي نريدها أن تكون في صيغة برلمانية خالصة ومن خلال المؤسسات الدستورية وقنواتها.

واليوم، وفي هذه المرحلة من التحضير للترشح والتكتل، أحث جميع القوى السياسية الفاعلة، وأتمنى منها الإسراع في بلورة تكتلات سياسية ترتقي نحو الممارسة التي أوضحناها، تسريعا للوثبة السياسية الإصلاحية المطلوبة.

وأحث جميع أبناء وبنات الوطن وسائر القوى السياسية والأحزاب على المشاركة وتشكيل الكتل السياسية، والاستناد إلى قوائم وطنية تطرح مرشحيها على أسس برامجية، وتخوض الانتخابات بما يحقق مصلحة الأردن العليا في هذا الظرف الدقيق من مسيرة وطننا العزيز. وأريد هنا التأكيد على مسألة جوهرية: أولويتنا هي الحكومات البرلمانية، ونحن ننظر إلى الانتخابات كمحطة في هذا الاتجاه، وبالتالي فإن إجراء الانتخابات وموعدها يجب أن ينظر له كوسيلة وليس غاية بحد ذاتها. وعلينا دائما متابعة زخم الانتخابات ومراجعة الأداء وتقويم المسار للتأكد من أن هذه المحطة، أي الانتخابات المبكرة، ستؤدي فعلاً لهذا الهدف الوطني الحاسم. ويجب أن نكون منفتحين ومتمسكين بالخيارات التي تضمن وصولنا إلى نهج الحكومات البرلمانية الممثلة، دون التراجع إلى الوراء لأنه لا يوجد ما يقلقنا من استمرار نهج الإصلاح وتعميقه.

سؤال: هذه رؤية جلالتكم لمرحلة ما قبل الانتخاب، وبعض جوانبها المستقبلية، ماذا عن رؤيتكم لتشكيل الحكومة البرلمانية التي سيفرزها البرلمان القادم كما أكّدتم؟

جلالة الملك: رؤيتنا للحكومات البرلمانية، وللدورة البرلمانية القادمة بشكل خاص تقوم على الاجتهاد التالي: وجود تكتلات وتجمعات برلمانية داخل المجلس تقوم على برامج تعالج القضايا والتحديات التي تواجه المواطنين، وقادرة على التوافق على رئيس للوزراء وحكومة لتنفيذ هذه البرامج. وهذا موضوع ليس بالسهل، ويُتَوَقَّع مني القيام بدور توفيقي أشجّع فيه النواب على التجمع في كتل إلى أن تنضج الحياة الحزبية، وسأحثهم على التجمع برلمانيا ضمن كتل لأن هذا جزء من مسؤولياتهم الوطنية في هذه المرحلة، ونعوّل كثيراً بالطبع على دور القائمة الوطنية في هذا المجال، كما أوضحت للتو.
وآلية التشاور مع مجلس النواب لتشكيل الحكومة تتضمن التشاور على شخص رئيس الوزراء مع مجلس النواب من خلال الكتل البرلمانية التي ستتشكل في البرلمان بعد الانتخابات. ومن ثم يبادر الرئيس المكلف للتشاور مع الكتل النيابية لمجلس النواب ومع القوى السياسية الأخرى لتشكيل حكومة تحظى بأغلبية نيابية ويتقدم للحصول على الثقة، بناء على بيان الحكومة الناجم عن عملية التشاور وعلى أساس برامجي لمدة أربع سنوات.

وبالطبع، ستتطور أعراف كفيلة بترسيخ هذه العملية ومأسستها، وبالحصول على الثقة تبدأ دورة تنفيذية وتشريعية متلازمة، يتاح من خلالها تنفيذ برامج تعالج قضايا ملحة في مجالات الطاقة والتعليم والبطالة والضمان الاجتماعي وتطوير القوانين السياسية وفي مقدمتها قانون الانتخاب، الذي كما قلت سابقا ليس الأمثل ولا بد من تطويره، إضافة إلى فتح المجال لإدخال تعديلات دستورية جديدة، إن تطلب الأمر واقتضت المصلحة الوطنية العليا ذلك.

سؤال: من الواضح أن جلالتكم متفائل بالحكومات البرلمانية. ولكن ماذا لو حدثت انشقاقات داخل الائتلافات الحزبية أو البرلمانية التي تضمن الأغلبية للحكومة؟ هل سندخل في مرحلة جديدة من عدم الاستقرار الحكومي سببها تجاذبات النواب؟

جلالة الملك: هذا الأمر محتمل وسنتعامل ونتكيف معه، وسنطور أداءنا الديموقراطي بما ينسجم مع تطور تجربتنا الديموقراطية، ونضج هذه التجربة يعتمد على تكاتف جميع الجهود. وعلى كل سياسي أن يضع مصالح الوطن العليا قبل المصالح الحزبية والشخصية. هذه هي الديموقراطية، وأهلا بها، فمن يعطي الشرعية للحكومة هو مجلس النواب الذي يستمد شرعيته من الناخبين. وهذا هو الأصل الدستوري الذي نريد ترسيخه.

ما نطمح له فعلياً هو أن تحظى الحكومات باستقرار يضمن لها تنفيذ برامجها التي انتخبت أو سيعاد انتخابها على أساسها. ولكن القول الفصل في بقاء الحكومات هو للشعب من خلال نوابه. ووضعنا ليس استثناء عن الدول التي تمر في مرحلة التحول الديموقراطي أو حتى في الديموقراطيات العريقة. الإصلاح يعني أن يقول الشعب كلمته في الحكومات وهذا يتم من خلال ممثليه في نظامنا السياسي. فالحكومة الجديدة، وبناء على التعديلات الدستورية الأخيرة، لا بد أن تتقدم لتحصل على ثقة مجلس النواب على أساس بيانها الوزاري الذي يطرح برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وأهدافه لأربع سنوات مقبلة، ويجب على الحكومة أن تحافظ على ثقة الأغلبية البرلمانية في مجلس النواب خلال فترة الأربع سنوات. ومدة الأربع سنوات هذه هي الفترة التي تحكم تداول الحكومات ومجلس النواب، وهذا يعني عملياً أن الأردن يعوّل على مجلس النواب والحكومة القادمين لترسيخ قاعدة الأربع سنوات في نظامنا وثقافتنا السياسية.

ومع استقرار ونضوج تجربة الحكومات البرلمانية وتطور الحياة الحزبية على أساس برامجي ونهج ديموقراطي، سيكون هناك حافز للأحزاب لتتجمع ضمن يمين ويسار ووسط بشكل أكثر وضوحاً وبعدد أقل، وبالتالي سننتقل من مفهوم الكتل البرلمانية إلى حالة أحزاب مُمَثَّلة في البرلمان. ما سيزيد من استقرار الحكومات التي يُؤَمَّل أن تصل إلى مرحلة تصبح فيها حكومات حزبية بامتياز. وهناك مسؤولية وطنية ملحّة ستواجه المجلس النيابي القادم فور إعلان نتائج الانتخابات القادمة، وهي المسارعة إلى تطوير نظامه الداخلي لتعزيز الأسس والممارسات الضرورية لتشكيل حكومات برلمانية، بحيث يتم بلورة أسس لتشكيل الكتل وقواعد للانضمام إليها والانسحاب منها، وآليات داخلية لاتخاذ القرار وإنشاء مراكز بحثية لإعداد الدراسات التي تمكن الكتل من مناقشة وتحليل وتقييم السياسات وتطوير بدائل لها تعبر عن توجهات الكتل، بالإضافة إلى تقييم مشاريع القوانين ومناقشتها وتعزيز قدرات وأدوات الكتل النيابية في الرقابة على الحكومات. هذه أولوية وطنية، ومن الضروري أن نراها حاضرة في برامج المرشحين، وأن يُسائل المواطنون مجلس النواب القادم لضمان إنجاز هذا المتطلب الضروري لترسيخ نهج الحكومات البرلمانية.

هذه هي رؤيتي واجتهادي المبني على فهم عملي لواقعنا السياسي وتاريخ تطور الدولة الأردنية وعلى قراءات لتجارب ديمقراطية معمقة، وهي مستندة لأفكار يطرحها الأردنيون ولمستها مباشرة في الحوارات واللقاءات التواصلية التي هي أساس نهجنا، وهي بطبيعة الحال مفتوحة للنقاش والتطوير من قبل جميع القوى السياسية والمجتمعية. وأنا متفائل بمستوى وعي المواطن، وسنصل إلى النموذج الذي يحقق طموحاتنا، بإذن الله.

سؤال: ولكن جلالة الملك، عناصر الرؤية التي أوضحتها تعوّل كثيراً على المجلس النيابي القادم، بل إنها تضع مخرجات الجولة القادمة من الإصلاح على محك مجلس النواب ونوعية أعضائه وأدائهم. وهناك مراقبون يحذرون سلفاً من أن البرلمان القادم سيكون نسخة كربونية عن ما سبقه، ما تعليقكم على ذلك؟

جلالة الملك: الجهة الوحيدة القادرة على تحديد شكل مجلس النواب القادم وضمان نوعيته والحكومة القادمة هم الناخبون. وأريد أن أؤكد هنا أنه لا وصاية لأحد على الناخب وإرادته الحرة، فلا يعقل أن نفاخر بمستويات النضج والتعبير والمساءلة التي وصلنا إليها، ثم نرتد عن ذلك عندما يتعلق الأمر بخيارات الناخب الأردني الذي نثق به وبوعيه ونحترم خياره وحرصه على المصلحة الوطنية. وهناك واجب على القوى السياسية والمرشحين والجهات الإعلامية للتواصل مع الناخبين وشرح برامجهم العملية التي تتضمن حلولا للمشاكل التي تواجههم، بحيث يتمكن الناخبون من اختيار الأفضل. وبحجم المشاركة وبالاختيار الأمثل والصادق سيكون التغيير.

كل ناخب يتحمل مسؤولية تاريخية في المساهمة إيجابيا في سوية مجلس النواب من خلال الخيار الانتخابي الصحيح، هذا الخيار الذي سيؤثر على تشكيل الحكومة والسياسات والبرامج التي ستنفذها مستقبلاً.

على المواطن أن يدرك، فيما يتعلق بالانتخابات القادمة، أن المجلس القادم وبسبب تركيبة نظامنا السياسي واستحقاقات الإصلاح، يشكل نقطة تحول في آلية صناعة القرار التي ستتكرس في البرلمان والحكومات المنبثقة عنه.

وحتى نبلور فكرة أدق عن حجم القضايا والقوانين التي تنتظر البرلمان القادم والحكومة التي ستنبثق عنه، ومدى أثرها على حاضر ومستقبل الناخبين، دعونا نتأملها بتمعن، إنها تتضمن تشريع قوانين جوهرية مثل: قانون الكسب غير المشروع الرادع للفساد، وقانون ضريبة دخل تصاعدي ومنسجم مع روح الدستور، وقانون ضمان اجتماعي يكرس العدالة بين المشتركين ويضمن أمانا معيشيا لهم ويكون مستداماً لأجيال الحاضر والمستقبل، وقانون مالكين ومستأجرين متوازن يراعي المصالح الاقتصادية والأولويات الاجتماعية، وقانون انتخاب يطور التمثيل الحزبي ويرسخ تجربة الحكومات البرلمانية، وقانون حماية المستهلك الذي يخفف من الأثر السلبي لارتفاع الأسعار ويحارب الاحتكار، وقوانين تشجيع استثمار قادرة على جذب الاستثمارات النوعية والمولّدة لفرص العمل للأردنيين ورفد الاقتصاد الوطني.

هذا على مستوى التشريعات المصيرية، أما القضايا الوطنية الملحة والتي تتطلب تطوير سياسات لمواجهتها بمسؤولية وحزم، فمن أهمها: سياسات وطنية للتشغيل وتوليد فرص العمل، والارتقاء بخدمات التعليم عبر إصلاحات تعليمية متعددة، وتحسين خدمات الصحة والنظافة العامة، بالإضافة إلى تشجيع وتسهيل الاستثمار في قطاع الطاقة خاصة مشاريع الطاقة النظيفة والمتجددة، وإيجاد مبادرات سريعة لمواجهة مشاكل وتحديات النقل العام تقود إلى إيجاد شبكة وطنية لخدمات النقل ذات كفاءة عالية وبكلف لا تشكل عبئا على المواطن. ومن الأولويات أيضاً الاستثمار والتخطيط الجيد في قطاع الزراعة بما يحقق مستوى أعلى من الاعتماد على الذات والأمن الغذائي، وترشيد الإنفاق الحكومي والاستهلاك العام للطاقة والمياه، والاستغلال الأمثل للموارد.

في ظل هذه الأولويات الوطنية كلها، أقول إن من ينتخب هذه المرة فإنه يصوّت على مستقبله ومستقبل الأردن. وعلى الناخب أن لا يتردد في المشاركة، وأن يصدق في الاختيار كي لا يفوت الفرصة في المشاركة في صناعة هذه القرارات المفصلية في تاريخ الوطن.

وهنا أتوجه من خلال منبركم، صحيفتي الرأي والجوردن تايمز، وهي من أعرق المؤسسات الإعلامية في الأردن، وأقول لجميع المؤسسات وأصحاب الجهود الإعلامية ومن مختلف المواقف السياسية التي يتبنوها: إن واجبكم الوطني يتطلب منكم إطلاق حوارات انتخابية تجسّر عملية التواصل بين المرشحين والناخبين، بحيث تتاح الفرصة والمنابر لجميع المرشحين والقوائم والكتل والأحزاب لعرض برامجهم على جمهور الناخبين، وأن تكون العملية تفاعلية بحيث تنقل وسائل الإعلام المسؤولة هموم وأسئلة وشجون المواطنين، وتطلق نقاشاً وطنيا جاداً حول ما يريده الناخبون وما يقدمه المرشحون، ما سيمكن المواطن الناخب من اختيار الأقدر على ترجمة طموحاته إلى عمل فعلي ونتائج ملموسة.

سؤال: في خطابكم الأخير تحدثتم بتوسّع عن المعارضة. وفي التطورات الأخيرة على المشهد السياسي برز دورها المحوري. كيف يشخص جلالتكم العلاقة مع المعارضة، خصوصا الإخوان المسلمين، وما مستقبلها؟

جلالة الملك: أنا أستغرب حقيقة من هذا الطرح. فالمعارضة السياسية لا يمكن اختزالها بالإخوان فقط! فهي متنوعة ومتعددة الأطياف والتوجهات.

على أية حال، القاسم المشترك بين جميع أشكال المعارضة الأردنية هو أنها كانت على الدوام وستبقى جزءاً أساسيا من النظام، النظام الذي يتكون من الجميع: الأفراد والمجتمع بجميع مكوناته. وفي حالة الإخوان تحديداً، فهم تاريخيا مكون رئيسي في الطيف السياسي والنسيج الاجتماعي، وكانوا على امتداد المسيرة جزءا من النظام السياسي، ولم يتم اضطهادهم ولا إقصاؤهم، بل إنهم تولوا مناصب رسمية قيادية ومتقدمة في مراحل مختلفة، وفي إحدى المراحل كان لديهم نحو ثلث مقاعد مجلس النواب.

رؤيتنا بالنسبة للمعارضة تستند إلى ضرورة أن يتمأسس دورها من خلال الوصول إلى البرلمان، وأن تحتكم دائماً إلى صناديق الاقتراع التي تحدد من يصل إلى مجلس النواب. كما نريد للمعارضة أن تتنافس بجدية من أجل تداول الحكومات، وأن تتقن الدور الرقابي الفاعل على الحكومات في مجلس النواب، بحيث تعمل فعليا بمفهوم "حكومة الظل" المتعارف عليها في الديموقراطيات البرلمانية، بحيث تُنافس الحكومات العاملة في تقديم الرؤى والبرامج والحلول والرقابة عليها، لا الانكفاء على الذات، ولعب دور المنظِّر عن بعد.

وأقول بكل وضوح إن كل من يريد التغيير عليه المبادرة للمشاركة، فليس هناك بديل عنها، وعلى مختلف القوى السياسية والاجتماعية أن تدرك أن تحقيق الإجماع الوطني الممكن هو غايتي الأولى، ومن خلال القنوات الدستورية. وعليه، فإنني أدعو الجميع إلى الابتعاد عن الجمود في المواقف والتخندق وراء المصالح الخاصة وتحقيق المكتسبات الآنية. وكما قلت سابقا: "بحجم المشاركة سيكون التغيير". وعلى من يسعى للتغيير أن يطرح البرامج التي تترجم ذلك، وأن يشارك في الانتخابات، وصندوق الاقتراع سيحدد من يصل إلى مجلس النواب، ومن أراد التغيير، فليفعل ذلك من تحت قبة البرلمان.

والتحدي الحقيقي أمام المعارضة السياسية اليوم هو حالة عزوف الناخبين عن الانضمام للأحزاب. فأكثر من 90 % من الأردنيين عازفون عن الانتساب للأحزاب السياسية، وهذا يتطلب عملاً جدياً من المعارضة والأحزاب الأخرى لتطوير برامج تستجيب لمصالح الناخبين وتدفعهم للتصويت على أساس حزبي وبرامجي. والحل الآني لهذا التحدي كما أوضحنا هو الكتل السياسية في مرحلة الترشح والمكونة من قوائم وطنية ومرشحين على مستوى الدوائر المحلية، والكتل النيابية التي ستتبلور في مجلس النواب بعد الانتخابات القادمة والمنبثقة عن الكتل السياسية التي تفوز في صناديق الاقتراع، والتي نعوّل عليها لتسريع عملية التطور السياسي والحزبي. هذا جزء مهم من المعادلة، يضاف له كما ذكرت سابقاً الالتزام في الاستمرار في تطوير قانون الأحزاب السياسية لتمكينها من تعميق مشاركتها.

سؤال: شكرا لهذا الشرح الوافي جلالتكم حول رؤيتكم لخارطة الإصلاح السياسي. إقليميا، هناك أحاديث لا تتوقف بأن العلاقة مع الأشقاء في الخليج تأثرت بسبب تفاوت المواقف من سوريا. هل هناك ضغوط خليجية أو دولية على الأردن بأي تجاه فيما يخص الوضع في سوريا؟

جلالة الملك: قد يكون هناك تفاوت في المواقف وشكل العلاقة مع المعارضة السورية والرؤية في التعامل معها، ولكن هناك تفهم لخصوصية هذه المواقف. فهناك واقع أمني وجغرافي وديمغرافي يحكم صناعة القرار الأردني تجاه الأزمة السورية، وهذه المدخلات تعنينا كأردن بالدرجة الأولى. ولا يمكن لأحد أن يغفل واقع اللاجئين السورين في الأردن. فالرقم بازدياد وقد قارب ربع مليون لاجئ، وهناك كلفة كبيرة لاستضافتهم، بالإضافة إلى الكلف غير المباشرة والضغط على البنى التحتية والخدمية الأخرى والموارد المائية الشحيحة أساسا في الأردن.

إن موقفنا من الأزمة في سوريا مبني على العناصر التالية: العمل بكل الطاقات لوقف إراقة الدم السوري، والتحرك على الصعيدين الدولي والعربي من أجل الوصول إلى حل يعيد الأمن والاستقرار إلى سوريا، ويضمن وحدة أراضيها وشعبها، وينهي العنف الدائر، ويضمن عملية انتقال سياسي يطمئن لها الجميع ويكونون شركاء فيها.

أمّا فيما يخص علاقتنا مع الأشقاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فستبقى على الدوام علاقة تاريخية وإستراتيجية وتكاملية نحرص كل الحرص على الاستمرار في تطويرها بما يخدم مصالحنا المشتركة. والأردن، قيادة وشعبا، يقدر على الدوام المواقف المشرفة لدول الخليج العربي، خصوصا دعمهم الموصول له تحت مختلف الظروف.

سؤال: طول أمد النزاع في سوريا وعدم قدرة أي من الأطراف على الحسم دفع الكثيرين إلى الاعتراف بصحة ودقة القراءة الأردنية للأزمة السورية كما عبرتم عنها جلالتكم. هل حل الأزمة سلمياً ما زال ممكنا؟ أم أن الحلول العسكرية هي الخيار الذي يلوح في الأفق؟ وهل تخشى جلالتكم على الأردن من تداعيات الحل العسكري؟

جلالة الملك: الحل السياسي في سوريا هو السبيل الأمثل. ومقومات نجاحه هي تَوَفُّر أجواء عربية ودولية متفاهمة وداعمة للخروج من حالة التأزيم والتدهور، وهذا من شأنه أن يقود إلى انتقال سياسي في سوريا وعملية تحول ديموقراطي ومصالحة وطنية تساعد على طي صفحة العنف والالتفات إلى المستقبل، ويجب أن تكون جميع القوى والطوائف متوافقة على مضامين الحل السياسي من أجل الحفاظ على تماسك سوريا ووحدة وسيادة ترابها وشعبها.

إن الفشل في الوصول إلى حل سياسي وتأخره قد يقود إلى تعقيدات أكثر على الأرض، وسيكون هناك تداعيات كارثية. وهذا أساس دعوتنا التي نجددها لجميع الأطراف في سوريا لوضع مصلحة سوريا ووحدتها أولاً وقبل كل شيء. والأردن لن يكون طرفا في أي تدخل عسكري، فهذا يتناقض مع مواقفنا ومبادئنا ومصالحنا الوطنية العليا.

لكن مع كل ما تقدم، فنحن نعتبر أن أمننا أولوية أولى، وحياة مواطنينا وأمانهم واجبنا الأول، ونعمة الأمن والأمان لم تأت بالصدفة ولا هدية من أحد، بل هي من بعد توفيق الله، نتيجة التخطيط الجيد واليقظة، وعقيدة أمنية لا تهادن في مصلحة الوطن. ومن هذا المنطلق فإن الدولة المسؤولة هي التي تعد للسيناريو الأسوأ، ونحن لم نتوقف عن الإعداد والتخطيط من أجل أمان مواطنينا. وإذا ما وُضع الأردن في مواجهة خطر محدق، فإننا سنبذل ما في وسعنا لحماية وطننا، وهذا واجبنا الذي لن نحيد عنه.

سؤال: كمراقبين، كنا نشعر بأن تداعيات الربيع العربي شغلت أجندة الإقليم على حساب قضية العرب الأولى: فلسطين، إلا أن تصويت 138 دولة لصالح تغيير صفة فلسطين من صفة مراقب إلى دولة مراقبة غير عضو في المنظمة الدولية، أنعش الآمال بتحرك العملية السلمية. كيف تقرأون جلالتكم هذه التطورات خاصّة في ظل نجاح الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدورة رئاسية ثانية؟

جلالة الملك: ابتداء، نبارك للشعب الفلسطيني الشقيق هذا الإنجاز الذي جاء نتيجة كفاح هذا الشعب وصموده، ونتيجة مساعي السلطة الوطنية الفلسطينية، بقيادة الرئيس محمود عبّاس، والذي نجح بتأييد دولي تاريخي في انتزاع فلسطين مكانة دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة. وفي الحقيقة، فهذا الإنجاز هو شهادة من العالم على عدالة القضية الفلسطينية، وفداحة الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين، وهو أيضاً رسالة تأييد دولية للنهج الرافض للعنف والحريص على إحلال السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط وفق حل الدولتين.

ولا شك أن لهذا القرار نتائج دبلوماسية وقانونية تصب في مصلحة القضية الفلسطينية، وهو إنجاز تاريخي واستراتيجي، إذ يضيف مستوى متقدما من الاعتراف والاحترام الدولي للدولة الفلسطينية، ويضع إسرائيل أمام مسؤوليات دولية كدولة محتلّة، في ظل إجماع دولي على حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية على التراب الوطني الفلسطيني. ونعوّل على هذا القرار لتحريك جهود المصالحة الفلسطينية، وتوحيد الصف الفلسطيني لمواجهة مختلف التحديات.
بالنسبة لنا، فإن الأردن سيحرص، كما هو الحال دائما، على توظيف هذا الإنجاز الفلسطيني في دبلوماسيته الساعية لتركيز الاهتمام الدولي والإقليمي على القضية الفلسطينية وعدالتها. وسنبني على هذا الإنجاز وسنحرص على تدعيمه بمبادرة السلام العربية لإعادة الزخم لعملية السلام، وحث الفلسطينيين والإسرائيليين على الشروع في مفاوضات الوضع النهائي، وصولاً إلى حلول تاريخية وشجاعة.

أيضاً، دعونا لا ننسى أهمية هذا الإنجاز الدبلوماسي والقانوني والذي يأتي كرد حاسم على مقولات الوطن البديل و ما يسمى الخيار الأردني. يجب علينا الآن كعرب وكأردنيين نتشارك الألم والمصاب مع أشقائنا الفلسطينيين، أن نعمل ونضغط بكل السبل الدبلوماسية المتاحة من أجل الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة على التراب الوطني الفلسطيني على حدود عام 1967، وأن تكون عاصمتها القدس الشرقية.

سؤال: وماذا عن الإدارة الأمريكية، جلالتكم، وانشغالها في تطورات الربيع العربي التي تلح على أجندة الإقليم على حساب الاهتمام بالقضية الفلسطينية؟

جلالة الملك: تعامل الولايات المتحدة مع ملف السلام مؤسسي، واليوم لدينا فرصة جيدة لإعادة تركيز الاهتمام بالقضية الفلسطينية مع وجود الرئيس أوباما لفترة رئاسية ثانية، بحيث يكون مطلعاً على تفاصيل النزاع وحيثيات التسوية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ومن الضروري أيضاً البناء على دعم الرباعية الدولية، والعمل بإيجابية مع جميع الشركاء الدوليين والإقليميين.

وسنعمل سويا مع الرئيس أوباما في رئاسته الثانية وصولا إلى انخراط أمريكي سريع وجدي في عملية السلام وفقا لحل الدولتين. المشكلة التي واجهناها سابقا هي أن الولايات المتحدة كانت منشغلة بأولوياتها الداخلية نظراً لتحدياتها الاقتصادية ومن ثم انشغالها بالانتخابات الرئاسية في العام الأخير. ومن المشاكل التي نواجهها أيضاً أن هناك فئة في إسرائيل مازالت تفكر بعقلية القلعة وفرض واقع أحادي واستمرار الاستيطان مما يعني تراجع فرص حل الدولتين، وهذا يكرس عملياً واقع الدولة الواحدة، ولكنها ستكون بأغلبية شعب فلسطيني مضطهد، وهذا نظام تمييز عنصري بامتياز وليس نظاما ديمقراطياً، وهو مسار خطير يقوض حل الدولتين.

أما في الجوار الإقليمي، فإن بعض الدول العربية عاكفة على شؤونها الداخلية إما بسبب أولوياتها الإصلاحية، أو الانشغال في عمليات التحول الديموقراطي بفعل الربيع العربي، وهذا واقع سيتغير لصالح القضية الفلسطينية مع صعود الديموقراطية في العالم العربي.

وهذا يعني أن التراجع بالاهتمام في القضية الفلسطينية مؤقت، وعلينا العمل لإحياء مركزيتها، والبناء على الزخم الدولي الذي حققته السلطة الوطنية الفلسطينية في الجمعية العمومية بتحول فلسطين إلى دولة غير عضو في الأمم المتحدة بصفة مراقب، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، وستكون عاملا مهما في حشد الدعم الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق التي سنستمر بتأييدها في مختلف المحافل. ودورنا سيتركز في إعادة الزخم الديبلوماسي العربي والدولي لتبقى القضية الفلسطينية حاضرة على الأجندة الدولية والإقليمية، ولتستمر العملية التفاوضية لأنها السبيل الوحيد للوصول إلى سلام عادل ودائم وفق حل الدولتين، ولتتم معالجة مختلف قضايا الوضع النهائي، مع الحفاظ على حقوق الأردن في أي تسوية نهائية، وصولاً لتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، وكل هذا مصلحة أردنية عليا كما هو مصلحة فلسطينية في آن واحد.
ولنكن متنبهين إلى أن ما شهدناه مؤخرا من تصعيد عسكري وعدوان إسرائيلي على قطاع غزة يظهر الحاجة الفعلية إلى تسريع وتكثيف العمل من قبل جميع الأطراف المعنية لتنشيط وإحياء جهود السلام وصولا إلى تسوية عادلة وشاملة، وأن نستبق التسريع الممنهج للاستيطان الإسرائيلي ومحاولات فرض واقع جديد على الأرض يستنفذ حل الدولتين.

سؤال: أخيرا، كيف ينظر جلالة الملك إلى مجمل الأوضاع الداخلية والإقليمية، وهل جلالتكم متفائل؟

جلالة الملك: بالرغم من تعقيدات المشهد الإقليمي وخطورته وصعوبة التنبؤ بالقادم، والاستحقاقات الوطنية الكبيرة التي تحتاج الكثير من الوقت والجهد المخلص من الجميع، فإنني متفائل دوما بقدرة شعبنا الأردني على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية.

وسيستمر الأردن في تحقيق نهضته الشاملة مستنداً إلى مبادئنا النابعة من الثورة العربية الكبرى: مبادئ الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية والمساواة، وإلى قيمنا في العيش المشترك والتسامح والتعددية والوسطية، واحترام كرامة الفرد.

إن هذا الوطن الذي تجاوز عمره التسعين عاما، وهذا الشعب الأصيل، الذي احتضن على الدوام إخوانه العرب عند الحاجة، وتقاسم معهم لقمة الخبز بالرغم من ضنك الحياة، ودافع عن ثرى فلسطين، واستشهد أبناؤه على ترابها، وفتح أبوابه لكل من استجار به وتحت مختلف الظروف، سيخرج من جميع الأزمات التي تحيط به أقوى من قبل، وسيستمر الإنسان الأردني، بإذن الله، قصة نجاح رغم كل التحديات.