مقابلة جلالة الملك عبدالله الثاني مع صحيفة الحياة اللندنية
الحياة: جلالة الملك، يأتي هذا الحوار قبيل القمة العربية في الكويت. ماذا تحمل الأجندة الأردنية من أولويات إلى القمّة؟
جلالة الملك: تأتي القمة في وقت يواجه فيه العالم العربي تحديات مصيرية في ظل تغيرات إقليمية وعالمية مستمرة، أبرزها التجاذبات والتنافس بين أبرز القوى الدولية، وتحديات اقتصادية وأمنية كبيرة. ومن الضروري توظيف هذا المنبر العربي المحوري، وكل المنابر العالمية الأخرى لتقريب المواقف العربية في التعاطي مع التحديات. ولنتذكر أن بعض القوى استغلت ضعف التضامن العربي للتأثير في الأزمات التي يواجهها العرب بما يخدم مصالحها.
انعقاد القمة يتزامن أيضاً مع حاجة الدول العربية الماسة لاستعادة زخم العمل العربي المشترك كإطار لمواجهة تحدياتنا. فالالتفات إلى الداخل والتركيز على المشاكل والأولويات الداخلية يسود أجواء العمل العربي، ونأمل أن تشكل هذه القمة فرصة لمعالجة هذه الحالة، والتركيز على التكامل العربي، الذي يشكل الحل الحقيقي لتحدياتنا السياسية والأمنية والاقتصادية.
كما ستركز المشاركة الأردنية في القمة على مركزية قضية العرب والمنطقة، وهي القضية الفلسطينية، ودعم العملية السلمية وفقاً لمبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة وبما يلبي طموح الشعب الفلسطيني الشقيق بإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية، وينهي النزاع في المنطقة، ويكفل في نفس الوقت حقوق الأردن ومصالحه العليا المرتبطة بقضايا الحل النهائي.
كما سنركز على الأزمة السورية وتبعاتها على الأردن والإقليم والعالم، وضرورة إنجاح الحل السياسي الذي طالما ذكرّنا العالم بأنه الحل الوحيد الذي ينهي العنف وسيل الدماء ويُفضي للدخول في مرحلة انتقالية شاملة تنهي النزاع المسلح وتحتوي تداعيات الكارثة الإنسانية وتنامي التطرف، وهذه قضايا تمس مستقبل المنطقة والعالم.
الحياة: عقدتم مؤخرا، جلالة الملك، لقاء مطولا مع الرئيس باراك أوباما؟ هل صحيح أن اهتمام أمريكا بمنطقتنا تراجع وأنها تعطي الأولوية لمفاوضاتها مع إيران متجاهلة مصالح حلفائها؟ وبماذا نصحتم أوباما في موضوعي سورية وفلسطين؟
جلالة الملك: طول مدة اللقاء يعكس اهتماما عميقا من الجانب الأمريكي بقضايا المنطقة، والرئيس أوباما كان واضحا في تأكيده على تاريخية واستراتيجية العلاقة بين الولايات المتحدة وأصدقائها من الدول العربية، وحرصه على أمن واستقرار المنطقة.
الإدارة الأمريكية على تواصل مع إيران حالياً، ضمن مجموعة 5 +1، بهدف معالجة الملف النووي، وأنا لمست الجدية والحزم من الرئيس أوباما وأركان الإدارة في هذا الشأن، وهناك واقعية أمريكية في منح الإيرانيين فرصة ووقتا كافيا لإظهار الجدية وحسن النية وتغييرا في الأسلوب. والإدارة الأمريكية واضحة في ربط موضوع الحوار مع إيران بسقف زمني محدد وبحسب النتائج.
بالنسبة لموقفنا في الأردن من الملف النووي الإيراني، فنحن نؤيد الجهود الدبلوماسية والحلول السلمية الساعية لتجنيب المنطقة أي عمل عسكري وتبعاته، لكنني أؤكد على ضرورة الوصول إلى شرق أوسط خال من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، مع احترام حق الدول في برامج الطاقة السلمية. وهذا المبدأ، الذي طالما نادينا به، يجب أن ينطبق على جميع الأطراف في المنطقة. كما أن هناك عدة ملفات مرتبطة بعلاقات إيران مع الدول العربية، والتي تستوجب معالجتها بالطرق الدبلوماسية أيضاً. وفيما يخص أمن الشرق الأوسط واستقراره، فإن الأردن حريص كل الحرص على أمن الأشقاء في دول الخليج العربية، فأمننا القومي متكامل ومصيرنا واحد ومشترك.
بالنسبة للقضية الفلسطينية وعملية السلام، فحديثي شدد على مركزية القضية الفلسطينية وارتباط أمن واستقرار المنطقة وما هو أبعد منها بحل هذه القضية بشكل عادل وشامل، فالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يشكل النزاع الأطول عمراً في المنطقة، بما يجسده من غياب للعدالة والظلم المستمر، وسيكون حله مدخلا لمعالجة العديد من تحديات الإقليم.
وفي إطار حديثي عن القضية الفلسطينية، والتي شغلت جزءا هاما من اللقاء الذي امتد لأكثر من ساعتين ونصف، أكدت أنه لا يوجد بديل منطقي وعملي لحل الدولتين، وأن نافذة هذا الحل لن تبقى متاحة إلى الأبد، فتغيّر الحقائق على الأرض فيما يخص التواصل الجغرافي لأراضي الدولة الفلسطينية يتطلب الإسراع في إنجاز السلام العادل والشامل تحت رعاية ومظلة أمريكية تضمن تحقيق العدالة.
كما أكدت على ضرورة ضمان المصالح الأردنية في قضايا الحل النهائي، فحتى تقوم الحلول العادلة والمستدامة يجب أن تُكفَل المصالح الأردنية العليا والمرتبطة بقضايا الحل النهائي خاصة القدس، واللاجئين، والحدود، والأمن، والمياه.
أمّا بالنسبة لسورية، فحديثي تمحور حول التحذير من خطورة استمرار الأزمة، التي دخلت عامها الرابع، وطول أمدها على المنطقة والعالم، خاصة فيما يتصل بتصاعد التطرف والإرهاب، وما نلمسه من توسع للصراع الطائفي والإرهاب لبعض دول جوار سورية، وتزايد تدفق اللاجئين، والضغط الهائل على الأردن ودول الجوار السوري وعلى قدراتها ومواردها، وأهمية إيصال الدعم الإنساني والإغاثي إلى اللاجئين السوريين في الدول المستضيفة وإلى داخل سورية.
الحياة: هل تتوقعون نتائج مهمة من زيارة أوباما إلى السعودية بعد الفتور الذي ظهر في العلاقات بين البلدين؟
جلالة الملك: نتوقع وندعم ذلك، ونأمل أن تكون الزيارة نقطة إيجابية إضافية في سجل العلاقة التاريخية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأشقائنا في المملكة العربية السعودية.
خلال لقائي الأخير مع الرئيس أوباما، لمست منه مدى تقديره لأهمية دول الخليج وقياداتها ومدى حرصه على تعميق العلاقة التاريخية والاستراتيجية بين الجانبين.
إن تعزيز العلاقات وتقارب وجهات النظر بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة هو مدخل مهم لاستقرار المنطقة وبلورة حلول ومبادرات كفيلة بتعزيز الأمن والاستقرار والازدهار، في ضوء الدور السعودي القيادي وقدرته على التأثير عربياً وإسلامياً بقيادة أخي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وما يتمتع به من حكمة وحنكة وسعيه الدائم لحماية مصالح الدول العربية والمنطقة وشعوبها وأجيالها.
الأردن حريص على إبقاء قنوات التواصل بين الدول العربية الشقيقة والولايات المتحدة في أفضل المستويات، لنقل قضايا المنطقة وهموم شعوبها والتحديات الاستراتيجية وإبقائها على رأس الأجندة الدولية وحاضرة في عواصم القرار العالمي. وقد لمست دوما من الطرفين السعودي والأمريكي حرصاً على تجاوز أي سوء فهم أو تباين في وجهات النظر.
وآمل أن توفر زيارة الرئيس أوباما القادمة نافذة لإحراز تقدم إيجابي في مسائل ترتبط بعملية السلام والوضع في سورية. ومن الضروري والمفيد استماع الإدارة الأمريكية لآراء ووجهات نظر الأشقاء في المملكة العربية السعودية فهي الدولة العربية الأكثر تأثيراً.
الحياة: هل يمكن أن تتعايش الولايات المتحدة مع استمرار الحرب في سورية سنوات إضافية، وهل يستطيع الأردن التعايش مع وضع من هذا النوع؟
جلالة الملك: وهل يمكن لأي منّا أو حتى للعالم أجمع التعايش مع نزاع مفتوح إلى الأبد! لا أعتقد ذلك. الشعب السوري الشقيق هو الخاسر الأول ومن سيدفع ثمن طول أمد النزاع.
كما لا أعتقد بأن سورية قادرة على الاستمرار في نزاع بهذه الوتيرة من العنف والحدة لسنوات طويلة، لأنه يهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، وبتدمير بنيتها ومؤسساتها، وبالانزلاق لا قدر الله نحو سيناريو "الدولة الفاشلة".
الولايات المتحدة، كما غالبية المجتمع الدولي، تعي تداعيات الأزمة السورية على الأمن والسلم الدوليين، وخاصة أمن وسلم الشرق الأوسط. فقضايا الهجرة واللجوء، وصعود التطرف، وسيناريو الدولة الفاشلة، وتحول سورية إلى ساحة للعنف والإرهاب قضايا تقلق الجميع. وطول أمد النزاع يهدد أيضا بالوصول إلى حالة من التعب أو الإنهاك في التعاطف والاهتمام الدولي تجاه قضية الشعب السوري.
لذا يجب أن لا نسمح لهذا النزاع بالاستمرار، وعلى الدول العربية جميعاً ودول الجوار المعنية والمجتمع الدولي العمل بشكل جدي من أجل إنهاء كافة جوانب الصراع، ومعالجة مأساة اللاجئين السوريين، وإنجاح حل سياسي يُفضي لمرحلة انتقالية شاملة تتوافق عليه مكونات المجتمع السوري ويكفل وحدة سورية وسيادتها ويمثل جميع أطياف الشعب السوري، ويرتكز إلى عملية إعادة بناء نابعة من الداخل السوري.
وبالنسبة لنا في الأردن، فموقفنا القومي والإنساني تجاه أشقائنا السوريين ثابت والشعب الأردني فتح ذراعيه لأشقائه العرب في كل المحن، والأردنيون تقاسموا مواردهم مع أشقائهم العرب والسوريين، إلا أن الضغط الهائل على مواردنا بات يحد من قدراتنا.
فالتحدي الأبرز لانعكاسات الأزمة السورية ليس في امتدادات النزاع إلى الأردن، فليس لدينا تركيبة ديموغرافية كتلك التي في بعض دول الجوار الشقيقة التي قد تتأثر من تداعيات هذا الجانب، المشكلة الأساسية لدينا هي في أعباء موجات اللجوء. فالأردن يستضيف حاليا أكثر من مليون وثلاثمائة ألف من الأشقاء السوريين، نصفهم فقط مسجلون كلاجئين، و80% منهم يعيشون في المدن الأردنية مستفيدين من دعم خدمات الصحة والتعليم والطاقة والسلع الأساسية. الضغط هائل على البنية التحتية والخدمات، خاصة وأن 40% من السوريين المقيمين هم من الأطفال وبحاجة لخدمات الرعاية. فتكلفة الاستضافة على الاقتصاد الوطني تقارب 3 مليار دولار لهذا العام، بحسب تقديرات مختلفة وبالتعاون مع هيئات الأمم المتحدة، وهي تتصاعد، والمساعدات الدولية لا تواكب التسارع في حجم الاحتياجات. فالدعم الدولي والعربي مقدر، ولكن من الضروري أن يرتقي إلى حجم الأزمة التي نواجهها، بحيث يوجه ضمن ثلاثة محاور: إلى حكومات الدول المستضيفة للاجئين مقابل الخدمات المركزية التي توفرها، وإلى المجتمعات المحلية المستضيفة للاجئين السوريين لتمكينها ومساندتها، وإلى داخل سورية أيضا حيث النازحون في أمس الحاجة إليه.
وها هو الأردن يعايش الأزمة السورية للسنة الرابعة، وقد أثبت منعته وصلابته، وصموده في وجه هذا الظرف الاستثنائي. فكون الأردن واحة أمن واستقرار على مرّ العقود، بتوفيق من الله وبوعي أبنائه وبناته، جعله موئلاً. والأردن قادر دوما على التكيّف وتوجيه قدراته بما يضمن مواجهة أي تحدٍ، وهذا ممكن بفضل الأداء الوطني والمهني لمؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، وبفضل الدعم العربي والدولي.
لكن، كلما طال النزاع في سورية كلما تجذر التطرف، وضعفت المؤسسات في سورية، وتمزق النسيج الاجتماعي السوري، وهذا خطر على العالم بأسره، وسيدفع الجميع الثمن. وكلما امتد أمد النزاع، كلما تصاعدت تكلفة معالجته بجميع أبعاده.
الحياة: جلالة الملك، هل هناك خطر جدي بتقسيم سورية كأمر واقع؟ وهل فشل الحل السياسي في سورية؟ وما هي نصيحتكم للرئيس بشار الأسد في هذه المرحلة؟
جلالة الملك: تحليلي ورأيي المبني على تاريخ المنطقة وعلى الواقع الفعلي على الأرض هو أن أي تقسيم لسورية سيخلق مشاكل خطيرة للشعب السوري وللمنطقة برمتها.
كل سيناريوهات التقسيم كارثية النتائج على سورية والمنطقة. وبالرغم من أن استمرار النزاع وطول أمده يفتح مجالاً لتقسيم فعلي على الأرض كجزء من اقتسام المناطق بين الأطراف المتنازعة، إلا أنه سيطلق موجات لا تنتهي من العنف والتطرف والكراهية، ويهدد بتعميق الحرب الأهلية الطائفية العرقية؛ التي ستكون ارتداداتها عابرة للحدود وخطيرة على السلم الإقليمي والدولي. كما أن التقسيم والتفكك سيُنتِج كيانات هشّة تشكل عبئاً أمنياً وبشرياً على جيران سورية، وقد يغذي توجهات انفصالية خطيرة في المنطقة.
حل الأزمة السورية سياسيا هو في ضمان وحدتها. العملية السياسية ستستغرق وقتاً، وقد يكون هناك عدة جولات من لقاءات دولية تعتمد صيغة "جنيف 1" و"جنيف 2" وقد يستغرق الأمر مدة تطول وتصل بنا إلى "جنيف 5" أو "جنيف 6"! إلا أنه علينا الحرص على إنجاز حل سياسي وعملية انتقالية وسلمية شاملة بما ينقذ سورية ويجنبها والمنطقة مزيداً من العنف والفتنة والخراب. فخيار الحل السياسي يجب ألا يسقط، لكن كلما تأخر هذا الحل كلما كانت الكلفة على سورية وشعبها أكبر.
ونصيحتي لكل السوريين، خاصّة القادرين على التأثير في مسار الأحداث، سواء كانوا في السلطة أم في المعارضة، أن اتقوا الله في وطنكم وشعبكم، وتبنوا حوارا حقيقيا من أجل سورية ومستقبل أجيالها ينهي النزاع المسلح، وينقذ الفسيفساء السوري الفريد والقائم على التنوع والتعدد.
الحياة: هل يخشى الأردن عودة الأردنيين الذين يقاتلون في سورية وهم من الجهاديين المتشددين؟
جلالة الملك: في حقيقة الأمر، فإن هؤلاء، وغالبيتهم من فئة الشباب، لم يكونوا بالأساس من حملة هذا الفكر المتشدد. ما يحدث هو أن معظمهم يعانون من ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة بسبب الفقر والبطالة، وعدم تكافؤ الفرص الاقتصادية والاجتماعية المتاحة لهؤلاء الشباب تجعلهم أهدافاً سهلة لأشخاص يقومون بالتغرير بهم ونقلهم إلى مواقع النزاع، وهناك تبدأ عملية "غسل دماغ" وتحويلهم إلى متطرفين. هؤلاء الشباب هم في الحقيقة ضحية لهذه الظاهرة والتي سببها مجموعة تستغل الدين لتجنيد شبابنا واستخدامهم وقودا في النزاع الدائر، ولا بد من محاربة الفقر والبطالة وترسيخ العدالة الاجتماعية لقطع الطريق على التطرف ومن يروج له.
وعليه، فإن صعود هذا التيار ليس ظاهرة خاصة بالأردن. هناك أكثر من 60 جنسية تقاتل في سورية، فهذا التحدي تواجهه دول مسلمة وغير مسلمة. ما يجري في سورية يمثل وقوداً للتطرف ويهدد بضياع مستقبل جيل بأكمله، ولا بد من إنهاء النزاع الدائر هناك للنجاح في احتواء التطرف وعدم انتقاله إلى دول الجوار والعالم.
والأردن ملتزم بضبط حدوده بكل مسؤولية، كما أن قوانينا كفيلة بتجريم وردع أي عمل ذي أبعاد إرهابية وحماية مواطنينا وضمان أمنهم وأمانهم، ومؤسساتنا قادرة على التعاطي مع هذه الارتدادات ومعالجتها. ولكن يجب أن لا ننسى أن المشكلة الأساسية هي في وجود ظرف قائم ومستمر في سورية أدى إلى صعود مثل هذه التيارات وبروز أيديولوجيتها.
للأردن نموذج إيجابي في التعامل مع التطرف ومعالجته وإعادة تأهيل ضحاياه، ومن ضمن هذه الجهود "رسالة عمّان" ومبادرات تبني على فكرها وتتصدى للمنابع الفكرية للتطرف بالإضافة إلى سلسلة مستمرة من اللقاءات الدينية التوفيقية، مثل المؤتمر الأخير لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، والتي تعري التطرف بالحجة والبرهان بهدف محاصرة هذا الفكر وإصلاحه.
ومن ضمن جهود الأردن في مجال التصدي للفكر المتطرف أيضاً حرصه على حماية الأقلية المسيحية العربية وهي مكوّن تاريخي أصيل في مجتمعاتنا، إذ احتضن الأردن مؤخراً مؤتمر "التحديات التي تواجه المسيحيين العرب" للوقوف على هذه التحديات ومعالجتها مرتكزين إلى النموذج الأردني القائم على قيم تاريخية من التآخي والتراحم واحترام التنوع والاندماج التي تمنحنا الثقة والقوة في مواجهة التطرف.
الحياة: تستضيف المملكة حاليا سربا من طائرات "إف 16" الأمريكية وبطارية صواريخ باتريوت، ما مدى استفادة الأردن من وجودهما؟
جلالة الملك: علينا مسؤولية حماية الأردنيين، ويجب أن يكون شعبنا متأكد بأننا نبذل قصارى جهدنا لحمايته، فالحيطة الآن أفضل من الأسف لاحقا، لا قدر الله.
وأستغرب حقيقة من يشكك في حق الأردن بحماية نفسه! كيف يمكن أن نطمئن والإقليم من حولنا ملتهب! وواجبنا أن يكون هناك جاهزية عالية لحماية شعبنا.
أمن الأردن يشكل ركنا أساسياً لاستقرار الإقليم. والأردن قادر على حماية أرضه وشعبه بقدراته. وأصدقاء الأردن وشركاؤه الدوليون حريصون على أمنه وسيدافعون عن استقراره، وجيشنا العربي مشهود له بالخبرة والمهنية وقدرته في الذود عن الوطن يعرفها القاصي والداني.
الأردن يتعايش مع الأزمة السورية وانعكاساتها للعام الرابع على التوالي. خطر انفلات السلاح الكيماوي، الذي كنّا من أوائل من حذر منه، مازال حاضراً في الماضي القريب. التفاهمات الدولية تهدف إلى معالجته، ولكن برنامج من هذا القبيل يتطلب الوقت. وإلى أن يتم ذلك وبشكل مطمئن، فمن حقنا، بل من واجبنا اتخاذ جميع الاحتياطات والتدابير لحماية شعبنا، وهذا ما نفعله وسنفعله، فأمن الأردن يتقدّم على كل شيء آخر.
الحياة: ما هو رأي جلالتكم في التوتر الحالي بين أمريكا وروسيا إثر الأزمة في أوكرانيا، وهل تتوقعون أن يكون لتصاعد التوتر بين البلدين انعكاسات على الأزمة السورية؟
جلالة الملك: أوّد هنا التذكير بموقف الأردن الداعي لاحترام سيادة أوكرانيا، واحترام المواثيق والالتزامات الدولية بين مختلف الأطراف المعنية في الأزمة، وتغليب الحوار والتفاهم، بالإضافة إلى احترام حقوق الإنسان والأقليّات داخل أوكرانيا، وهو موقف عبّر عنه الأردن من موقعه في مجلس الأمن. فاحترام سيادة الدول وإرادة الشعوب هو جوهر السياسة الخارجية الأردنية، وهو ما أكسبنا الاحترام والثقة الدولية.
القضايا والمصالح الدولية مترابطة، ولا شك أن تقييم المواقف والسياسات بين الدول الكبرى يتم بشكل كلي وليس جزئي. ولذلك، تواصل الأردن منذ بدايات تصاعد الأزمة الأوكرانية مع أصدقائنا الأمريكيين، والروس، والأوروبيين متسائلاً عن أثرها على استمرارهم بالعمل معا لأجل حل الأزمة السورية، لنذكّر بأن أي إهمال للأزمة السورية أو تباطؤ في معالجتها سيزيد من تعقيداتها وستصبح أكثر صعوبة وخطورة وسيدفع المجتمع الدولي بأسره الثمن.
الحياة: يتحرك وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، لإنجاز إطار للتفاوض بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. هل أنتم على إطلاع تام على التفاصيل؟ وهل يقبل الأردن فكرة تواجد قوات إسرائيلية أو أميركية على الجانب المقابل لحدوده الغربية؟
جلالة الملك: نحن مطلعون على هذه التفاصيل، وكما قلت، فإن السلام المستدام يتطلب انخراط الأردن وضمان مصالحه العليا، ولن نقبل بأي شكل من الأشكال بحل على حساب الأردن وشعبه.
بالنسبة لجزئية الحدود التي ذكرتها، فهي ضمن قضايا الوضع النهائي المتداخلة والمرتبطة بقضايا الحدود والترتيبات الأمنية، وهذه سيتم توضيحها في مفاوضات الوضع النهائي. فالجانب الأمريكي سيقترح إطارا للتفاوض، وإذا وافق عليه الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، فإنه سيكون بمثابة الأسس التي يرتكزان عليها في التفاوض على قضايا الحل النهائي. فيما يتعلق بالحدود، فالأردن سيدعم الصيغة التي سيتوصل إليها الفلسطينيون والإسرائيليون تحت الرعاية الأمريكية، وبما لا يمس سيادة الأردن بالتأكيد، وبما يضمن السيادة الفلسطينية الكاملة على أراضيها.
تلوح اليوم فرصة حقيقية لإيجاد حل سلمي عادل وشامل، والأردن يقوم بدور بنّاء في تقريب وجهات النظر والوصول إلى حلول تكفل حق الفلسطينيين في إقامة دولة ذات سيادة وفق مبادرة السلام العربية، وتوفر الضمانات الأمنية الضرورية لأمن واستقرار كل دول المنطقة.
الحياة: هل تجددت المخاوف من ما يروج له البعض والمسمى "بالوطن البديل"؟
جلالة الملك: لقد كان لي مؤخراً حديث مطوَّل في هذا الشأن ووصفته بأوهام الوطن البديل، وأريد هنا أن أوضح بعض النقاط.
لقد علمنا تاريخ عملية السلام بأنه كلّما اقتربنا من بوادر الحل، تعلو قلة من الأصوات التي تسعى لتقويضه، وحديث الوطن البديل هو تجسيد لهذا الأمر.
إذا كان المقصود بالوطن البديل الأوهام التي يروج لها متشددون إسرائيليون يتوهمون بإمكانية إفراغ الأراضي الفلسطينية من أهلها وإقصائهم إلى الأردن، فهذه فعلا أوهام. الظرف الدولي، والموضوعي، والوطنية الأردنية، والدولة الأردنية بمؤسساتها الراسخة، والوطنية الفلسطينية؛ جميعها ستكون الصخرة التي ستتحطم عليها هذه الأوهام.
أمّا إذا كان الحديث عن الوطن البديل هو مدخل لبث سموم المحاصصة السياسية في الأردن وفرز الناس وشحنهم على أساس الأصول والمناطق، فالهوية الوطنية الأردنية جامعة؛ والشعب الأردني بكل مكوناته كفيل بردع مثل هذا الخطاب الهدّام. وعلى مدار سنوات النزاع العربي الإسرائيلي، وبعد إقرار معاهدة السلام مع إسرائيل، التزم الأردن بمواقف وسياسات داعمة للشعب الفلسطيني ولاستمراره في وجوده على أرضه بحرية وكرامة ولحقه في إقامة دولته المستقلة.
وأريد هنا التأكيد على أن حق العودة هو من ثوابت الدولة الأردنية، وهذا لا يتعارض بتاتا مع اعتبار مبدأ المواطنة، بما تمثله من حقوق وواجبات، الإطار الناظم لعلاقة الدولة بالفرد وبالمجتمع.
أمّا فيما يخص مستقبل العلاقة بين الشعبين الأردني والفلسطيني، وكما ذكرت مرارا، فهو أمر ينتظر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة الكاملة على التراب الوطني الفلسطيني، ليقرر الشعبان والدولتان شكل العلاقة التي تحقق مصالحهما المشتركة. ومن يعرف مدى عروبية الشعبين الأردني والفلسطيني يطمئن إلى أن العلاقة بينهما ستضرب مثالاً متقدماً في التعاون والتكامل.
الحياة: هل الانفتاح العراقي على الأردن اقتصادي (خط الغاز والنفط) أم سياسي أيضا؟
جلالة الملك: الأردن من حيث المبدأ منفتح على الجميع، ونفتخر بعلاقاتنا المميزة مع مختلف الأشقاء والأصدقاء. ونعتبر مبدأ حسن الجوار من معززات العمل العربي المشترك.
الأردن حريص جداً على استقرار العراق ووحدته وانسجام مكوناته، ونحن نقف على مسافة واحدة من جميع أطراف الطيف والمشهد السياسي، وتعاملنا مع العراق يتم عبر قنوات مؤسسية رسمية تثريه علاقات اجتماعية وطيدة بين الشعبين.
ليس من مصلحة أحد إحياء العنف في العراق، أو تسرب العنف من سورية إلى العراق واتساع دائرته لا قدّر الله. ونريد للعراق الشقيق أن يكون شريكاً فاعلاً وقوياً في محيطه العربي يضطلع بدور بناء داعم للقضايا العربية والإسلامية، وأن تكون كل مكونات الشعب العراقي شريكة في بناء الدولة وجهود التنمية الشاملة.
الأردن والعراق في أمس الحاجة لتعميق التعاون الاقتصادي الثنائي، والتقدم المنجز في بعض مشاريع الطاقة يأتي ضمن الانفتاح الذي وصفته، كما أن تنويع مصادر الطاقة هو ضمن إستراتيجيتنا الوطنية، والأردن بوابة اقتصادية حيوية للعراق، وترجمة هذا الطموح إلى ازدهار فعلي تعيشه الشعوب يحتاج إلى أجواء من الهدوء والاستقرار، وهذا ما نتمناه.
الحياة: هل تخشون على الوضع في لبنان في حال استمرار الحرب السورية؟
جلالة الملك: طالما حذرنا من تداعيات الأزمة السورية واستمرارها على دول الجوار. وكنا دائماً إلى جانب لبنان في كل المحافل العربية والدولية لحشد الدعم الإغاثي، وتمكينه من التعامل مع التبعات الإنسانية للأزمة السورية.
الوضع الأمني والسياسي في لبنان دقيق، ويحاول لبنان جاهداً النأي بنفسه عن الانجرار إلى الأزمة السورية. فتركيبة لبنان لا تحتمل من أي طرف لبناني أن يتدخل في الأزمة السورية، فيقحم كل لبنان في تبعات هذه الأزمة.
هناك مؤشرات مقلقة حقاً مثل سلسلة التفجيرات والاشتباكات المسلحة على خلفيات طائفية، وقصف لبلدة لبنانية حدودية، وتجاذبات داخل المشهد السياسي نتيجة انغماس بعض الأطراف في النزاع في سورية.
ومن باب الحرص على أمن لبنان واستقراره وسيادته ووحدته، نؤكد على ضرورة عدم التدخل غير البناء من أي من الأطراف اللبنانية في النزاع السوري.
قلبنا على لبنان ومعه لأنه الأكثر تأثراً من الأزمة السورية في ظل تركيبته الديموغرافية. ويجب أن يكون هناك وعي بدقة الوضع في لبنان وتبعات موجات اللجوء على استقراره.
الحياة: كيف تنظرون إلى الوضع الحالي في مصر، وإلى مستقبل هذا البلد العربي؟
جلالة الملك: نحن لا نتدخل في الشأن الداخلي لأي من أشقائنا العرب، وهذه من ركائز السياسة الخارجية الأردنية، ولكن تحليلي للوضع في مصر يرتكز على أهمية عودة الأمن والاستقرار، فلا يمكن تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط دون مصر، ومن يدّعي غير ذلك فهو لا يعرف المنطقة وتاريخها، فهي أكبر بلد عربي من حيث السكان، إذ تشكل لوحدها 25% من المجتمع العربي، واستقرارها وأمنها ودورها المحوري ينعكس إيجابيا على المنطقة ككل.
العرب والمسلمون بحاجة لمصر لتعود قوية وفاعلة وتحمي كل مكونات الشعب المصري. فهي في قلب العالم العربي والإسلامي، وحلقة الوصل بين آسيا وأفريقيا، ودورها محوري في نشر الأمن والاستقرار والاعتدال.
يجب النظر إلى فترة الولاية الرئاسية القادمة بشكل شامل، فهي محطة مهمة لمستقبل مصر تتطلب قيادة قوية تتمتع بثقة غالبية المصريين وحكيمة وقادرة على قيادة مصر ومؤسساتها الراسخة لبر الأمان خلال هذه الفترة، وللتصدي للتحديات الأمنية الداخلية وللمساهمة في استعادة الاستقرار في الدول المحيطة بمصر والمهمة لنا جميعاً في الدول العربية.
نحن ندعم مساعي مصر للعودة للاستقرار والأمن الكامل والتصدي للإرهاب ونبذه، ونعوّل على استمرار الدور التاريخي للأزهر الشريف في الدفاع عن صورة الإسلام الحنيف وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال والتآخي والتعايش.
من الضروري أيضاً المضي قدماً بخارطة الطريق التي تحظى بتوافق الأغلبية في مصر، بما تتضمنه من محطات إصلاحية وديمقراطية في هذه التحولات الدقيقة، وسنحترم دائماً خيارات الشعب المصري الشقيق، وندعم من يختاره ويثق به ليمثله ويحمي مصالحه. والشعب المصري سيقرر والتاريخ سيبيِّن من عمل لمصر ومن عمل ضدها.
الحياة: جلالة الملك، ذكرت أن الأردن حافظ على نموذجه في الاستقرار، كيف تفسرون نجاح الأردن وقيادته تحديداً في التعامل مع "الربيع العربي"؟ وهل ثمة عودة محتملة "للإخوان" إلى قلب الحياة السياسية؟
جلالة الملك: لقد انتهجنا في الأردن طريقاً ثالثاً: فلم تبق الحياة السياسية راكدة، ولم يتم القفز إلى المجهول. كما حرصنا على عدم اختزال الإصلاح بمجرد إجراء انتخابات، بل بإرساء منظومة ديمقراطية متكاملة بقوانين ومؤسسات وممارسات.
ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الربيع العربي، اتخذناه حافزاً لتجديد الإصلاح وتعميقه ولم نتخذ منه ذريعة للتأجيل بالرغم من الظرف الاقتصادي الصعب والتحديات الأمنية الإقليمية. الإنجازات الإصلاحية الفعلية هي التي حددت معالم النموذج الإصلاحي الأردني، النابع من الداخل والقائم على التدرج، وبناء الإجماع، وإعمال المواطنة الفاعلة.
بدأنا بتعديل الدستور، ثم الجولة الأولى من تطوير القوانين السياسية الأساسية كقوانين الانتخاب والأحزاب والاجتماعات العامة، وتم استحداث مؤسسات ديمقراطية مُعزِّزة مثل الهيئة المستقلة للانتخاب والمحكمة الدستورية، وأُجريَت انتخابات نيابية وبلدية في عام واحد جدّدت العملية السياسية والمنخرطين فيها، واستحدثت آلية جديدة لتعيين الحكومات تقوم على مشاورات مع أعضاء مجلس النواب، بحيث تم تكليف رئيس الوزراء بناء على استشارات مع الكتل النيابية والمستقلين، كما تم إطلاق برنامج للتمكين الديمقراطي لتنفيذ مشاريع شبابية تهدف إلى تطوير الممارسات الديمقراطية. وجميع هذه المنجزات وما سيتبعها تكوِّن منظومة من الضوابط للفصل والتوازن بين السلطات.
الهدف الجوهري في الإصلاح السياسي وغايته هو المواطن الأردني. وجميع ما أنجز يصب في اتجاه تمكينه من المشاركة في صناعة القرار. فالمواطن ينتخب نائباً يقوم بدوره باختيار الحكومة في السلطة التنفيذية، ثم تنطلق دورة من التشريع والرقابة يمارسها النائب الذي يراقبه ناخبه، ويعبر المواطن عن مدى رضاه عن أداء نائبه في الانتخابات التالية.
هذه هي معالم النموذج الإصلاحي الأردني الهادف إلى تطوير القائم وليس هدمه. والهدف النهائي هو تعميق الديمقراطية والوصول إلى حالة متقدمة من الحكومات البرلمانية، وهذا يتطلب الجهد المستمر لتطوير العمل الحزبي والنيابي على أساس برامجي. ونحن اليوم في الجولة الثانية من تعديل قوانين سياسية مهمة بحيث تعمق النهج الديمقراطي وتواكب التعديلات الدستورية، ومنها قانون استقلال القضاء، وقانون محكمة أمن الدولة، فضلاً عن تحديث حزمة من التشريعات الاقتصادية الاجتماعية لتحقيق النمو الاقتصادي الشامل وتجذير العدالة الاجتماعية.
هذا النموذج الإصلاحي لم يقص أحداً ولم ولن يحابي أحداً، فالفرصة السياسية متاحة للجميع، ومن بينهم المعارضة الوطنية البناءة، لخوض ميدان العمل العام والسعي لنيل ثقة المواطن وتمثيله والتنافس العادل للوصول إلى مسؤولية السلطة دون إملاءات أو شروط ومع احترام توجهات الأغلبية.
بالنسبة لسؤالك عن الإخوان، فهم جزء من الطيف السياسي كباقي القوى السياسية العديدة الموجودة في الأردن. هم لم يخرجوا من المشهد حتى يعودوا! وما حدث خلال السنوات الماضية أنهم اعتمدوا المقاطعة أساساً لعملهم السياسي، وهذا الأسلوب كشف عن حسابات خاطئة وأضر بمصداقيتهم. مشاركتهم أو مقاطعتهم هو شأنهم في نهاية المطاف.
مسيرتنا الإصلاحية متواصلة وسيبقى الأردن دائماً فاتحاً ذراعيه لمن يريد أن يكون عنصراً فاعلاً في مسيرة البناء وحماية مبادئ التعددية والانفتاح والاعتدال وصيانة حقوق أبناء وبنات الوطن، ويؤمن قولاً وفعلاً بالتنافس السياسي العادل والفرصة المتساوية للأحزاب لتطوير برامجها وبناء قواعدها بما يسمح لها بالتنافس في إطار من التعددية السياسية واحترام الحقوق.
الحياة: قلتم، جلالة الملك، إن الملكية التي سيرثها ولي عهدكم ستكون مختلفة عما ورثتموه عن جلالة الملك الحسين بن طلال، رحمه الله. ما هو المقصود بذلك؟
جلالة الملك: المجتمعات الحيّة في حركة تطور مستمر. والتقدم الذي حققه الأردن على مختلف الصعد يعتبر قياسياً. مجتمعنا تغيّر، طموحاته وآلية التعبير عنها تغيّرت، أسس عمل الحكومات ومجالس النواب تغيّرت. ولكل قائد أسلوبه.
ومن بين ما قصدته أيضاً هو أن عملية التطور والإصلاح السياسي مستمرة، فالتعديلات الدستورية أحدثت تغييرات جوهرية في بنية الدولة، وهي تهدف بشكل أساسي إلى تمكين المواطن عبر مجلس النواب المنتخب من مشاركة واسعة في صنع القرار.
وما قصدته بتلك العبارة أيضاً هو أن الأردن الملتزم بالإصلاح والديمقراطية كنهج حياة؛ سيغدو مع الوقت أكثر ديمقراطية بالضرورة. فما نطمح له ونعمل من أجل تحقيقه هو تطوير العمل الحزبي والعمل النيابي بحيث نصل إلى تطبيق متقدم لمفهوم الحكومة البرلمانية، عبر الدورات البرلمانية المتتالية، فنصل بذلك إلى مجلس نواب بأغلبية ذات برامج حزبية تتولى تشكيل الحكومة، في حين تراقبها أقلية نيابية من خلال حكومة ظل حزبية وذات برامج أيضاً وتحمل رؤية منافسة فيما يتعلق بإدارة القضايا العامة، وتتم المنافسة وتداول الحكومات عبر صناديق الاقتراع. وهناك بوادر واعدة في مجلس النواب الحالي لمأسسة عمل الكتل ضمن عدد محدود من الإئتلافات الرئيسية، منها من يدعم الحكومة على أساس برامجي ومنها من يعارض الحكومة على أساس برامجي أيضاً. وهذا تجسيد للتطور والتغيير الذي عنيته.
وما أقصده بشكل أكثر تحديداً هو أن آليات صناعة القرار في تطور مستمر ومن ضمنها مؤسسة العرش. فالتطور والتقدم والتغيير هي سنة الحياة، والأردن يتطور مجتمعا ودولة ومؤسسات ونظاماً، بما في ذلك الملكية ومؤسسة العرش. وكقائد لهذا الوطن، أتعامل مع هذه المتغيرات والتطور بمستوى الاستجابة والديناميكية والمرونة الضرورية.
والشيء الثابت الذي لن يتغير هو علاقة الملكية بالشعب، فمسؤوليتنا أن نكرس أنفسنا لخدمة الشعب ورعاية مصالحه وأن نكون صمام الأمان في المفاصل التي تتطلب ذلك، خاصة الذود عن أمننا الوطني، وصيانة قيمنا الأساسية من وحدة وتعددية وانفتاح وتسامح واعتدال. وهذا عهدنا دوما أمام الله ومع الشعب.
الحياة: جلالة الملك، هل يمكن إنجاز الإصلاح في الأردن في ظل المديونية الهائلة؟ وماذا عن ملف مكافحة الفساد؟
جلالة الملك: بالتأكيد يمكننا إنجاز الإصلاح، والمؤشرات مُبشرة، وقبل أن أوضح ذلك أريد أن أبين أن ربط الإصلاح بحجم المديونية والفساد أمر بحاجة للدقة والتوضيح.
الحديث عن الفساد يقع غالبا في دائرة المبالغة والتهويل، وقد كان لذلك آثار سلبية على جذب الاستثمار وخسارة الآلاف من فرص العمل الجديدة. لقد آن الأوان لاستعادة الثقة عبر تجذير ثقافة النزاهة. وقد كان هناك تصريح لرئيس هيئة مكافحة الفساد، وهي هيئة رقابية مستقلة، أكّد فيه أن أكثر من 90% من شكاوى الفساد كيدية! وهذا المثال يجب أن يقرأ أيضاً في سياق موقع الأردن على مقياس منظمة الشفافية الدولية. ففي العام 2012، جاء الأردن ضمن أفضل 30% من دول العالم على مقياس منظمة الشفافية وتصدر الدول العربية غير النفطية ضمن هذا مقياس. هذه الحقائق، التي نطمح دائماً إلى تطويرها نحو مستويات أفضل، لا تنال التركيز والتحليل الذي تستحقه.
وبكل الأحوال، فإننا عاكفون وبكل جدية على محاصرة آفة الفساد، وهناك خطوات عملية تم اتخاذها تتجسد في منظومة النزاهة الوطنية التي تعزز إجراءات قائمة وأخرى ستستحدث من شأنها ردع الفساد، فضلاً عن الاستمرار في تطوير قدرات مؤسسات الدولة وأجهزتها لاتخاذ القرارات السليمة بثقة والوقوف في وجه كل من يحاول الإفساد، وضمان عمل القضاء بشكل سريع وعادل في البت في قضايا الفساد.
وعودة إلى جزئية المديونية وارتفاعها، ففي عام 2000 بلغت المديونية قرابة 105 % من الناتج المحلي الإجمالي، وفي السنوات التي تلتها نما الاقتصاد الأردني بوتيرة إيجابية وطبقت إصلاحات اقتصادية مكنتنا من تخفيض الدين بحلول العام 2008 إلى نحو 55 % . إلا أن مجموعة من الأسباب والأحداث الخارجة عن إرادتنا مثل الأزمة المالية العالمية، والارتفاع الهائل في أسعار السلع الأساسية والطاقة، ومن ثم الأزمات في مصر التي تسببت بانقطاع إمدادات الغاز ما فاقم من فاتورة الطاقة، والأزمة في سورية التي تسببت بموجات لجوء نتحمل النسبة الأكبر من تكلفتها، كلها عوامل فاقمت في مجملها من حجم المديونية.
رؤيتي تقوم على أهمية الإصلاحات الاقتصادية لأنها تسهل عملية الإصلاح السياسي. فأنت تستطيع أن تنجز إصلاحات سياسية بشكل أكثر سلاسة ومرونة عندما يكون الظرف الاقتصادي مزدهراً ومواتياً.
وبالرغم من ذلك، فإن القفزة الإصلاحية التي حققها الأردن ومازال مستمراً فيها جاءت في ظل ظروف اقتصادية ومالية صعبة وضاغطة، لم تثنينا عن تحقيق الإصلاح الشامل، ولن نسمح للتحديات الاقتصادية أو الإقليمية بأن تكون ذرائع عن المضي في الإصلاح، الذي سنترجمه وشعبنا الأردني إنجازا ديمقراطيا تلو الآخر، ويدا بيد.