كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية

٣ أيلول ٢٠٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

شكراً أيها الرئيس، والشكر لكم جميعاً. ويسعدني أن أكون في موسكو ثانيةً، وأن ألتقي العديد من الأصدقاء. نلتقي اليوم في وقت عصيب للغاية، وقت رهيب يشكل تحديا لنا جميعا نحن الذين ننبذ الارهاب. اصدقائي، دعوني اقول لكم ان كل الاردنيين يدينون بشدة هذه الاعمال الارهابية التي يندى لها الجبين ضد الاطفال والابرياء. وكأب استطيع ان اقول لكم ان الآباء والامهات الاردنيين يبتهلون مع الاباء والامهات في روسيا ويقفون معكم في حزنكم وتصميمكم.

اصدقائي،

من الصعب ان نناقش القضايا العالمية عندما تواجهنا مثل هذه الازمة. ولكن التزام هذه الجامعة، ايها الرئيس، بالسلام والتقدم يمكن ان يساهم مساهمة فعالة في ايجاد الحلول التي نحن بامس الحاجة اليها. فجامعتكم تحظى بالاحترام في جميع أرجاء العالم لارتفاع مستوى معاييرها وتميّز هيئتها التدريسية وخرّيجيها. وحقاً إنه لشرف كبير أن أحظى بترحيبكم. وإنه ليشرفني بصورة خاصة أن أكون بينكم هنا خلال هذا العام الذي يحتفل فيه المعهد بعيد تأسيسه الستّين.

ودعني اضيف، أيها الرئيس توركونوف، انني لم آتِ هنا وحدي، فأنا هنا نيابةً عن جميع الأردنيين. ذلك أننا جميعاً نحمل أسمى مشاعر التقدير لروسيا ولشعبها. فليس هناك من بلدٍ قام بما قام به بلدكم في تصدّيه للمشكلات الصعبة وبناء مستقبل جديد. فما حققتموه مهم، لا لمستقبل أبناء شعبكم فحسب بل ولتشكيل مستقبل عالمي يظلله السلام والأمل. وتمثّل هذه الشهادة المقُدّرة، بالنسبة لي، رمزاً لتلك الشراكة. وأشكركم الشكر أجزله.

السادة أعضاء الهيئة التدريسية،

الطلاب الأعزّاء،

الضيوف والأصدقاء الأجلاّء،

لقد انقضى أكثر من خمسة عشر عاماً منذ أن بدأ التغيير يجتاح هذا العالم. وقد حملت لنا روح الإصلاح وروح المسؤوليات والإنجازات الجديدة، وعداً بتـحقيق الكـثير من أجل مستقبلنا. ومع ذلك، ما زالت الأزمات المتجذرة تلقي بظلالها على عالمنا هذا. فهناك شر الإرهاب، ونزاع إقليمي وعرقي، وهناك فقر وحرمان. ولم يشهد العالم من قبل وقتا اكثر اهمية لاصدقاء السلام والتقدم ان يعملوا معا لانهاء النزاعات الاقليمية والاتحاد ضد الارهاب والعمل على رأب الصدع الاقتصادي والصدع الثقافي.

وليس هناك من بلد يتفهّم هذا أكثر من روسيا. فموقعكم جيراناً للغرب، والشرق، والشرق الأوسط، يعطي بلدكم دوراً مركزياً في عالمنا - لا في الجغرافيا فقط، ولكن في الأفكار والحركات أيضاً. فبلدكم هو قلب تاريخي، لا للمسيحية الأرثوذكسية فحسب، بل ولمجتمع مسلم مزدهرٍ مُتنام. فهناك اليوم 20 مليون مواطن روسي مسلم. وفي واقع الأمر كان تمثيل روسيا في المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد في العام الماضى على أرفع مستوى، إذ مثلها الرئيس بوتين.

لقد رأينا جميعاً كيف يروّج المتطرفون لأجندة سلطتهم. فهم يعملون على تقسيم العالم إلى معسكرات متعادية وينهضون بنشاط لبناء جدران وحواجز عقلية جديدة. ولكن التغيير الإيجابي يبدأ - كما بيّنت لنا روسيا حتى في اوقات التحدي الصعبة- عندما تتهاوى الجدران، وتتفتح العقول، ونتواصل واحدنا مع الآخر في نطاق الاحترام المتبادل. ومن هذا المنطلق، فإنني أحيّي الرئيس بوتين، وكذلك العديد منكم، لرفضكم ظاهرة التخوّف من الإسلام، أو ما اصطُلح على الإشارة إليه بالإسلاموفوبيا. وآمل أن تعملوا معنا لتجسير هذا الصَدع المدمّر حيثما وجد في أرجاء العالم.

وفيما يتصل بنا في العالم الإسلامي، يمكنني أن أقول لكم إن المتطرفين لن يُسكتوا الإسلام الحقيقي. فديننا الحنيف يضع السماحة والسلام في أعلى المراتـب. والمملكة الأردنية الهاشمية تمثّل بصورة جيدة تلك التقاليد العظيمة المتمثلة في الحرص على لمّ الشمل وعدم الإقصاء، والرؤية المُستشرفة. ففي بلادنا يعيش المسيحيون الأرثوذكس والمسيحيون الآخرون إخواناً - وأخوات - لجيرانهم المسلمين. ونحن جميعاً معاً، أردنيون، ولن يكون للفُرقة مكان بيننا.

أيها الأصدقاء،

إن قيم وطني وديني تدفع بعملية الإصلاح الحقيقي الذي يلمس الناس نتائجه في مختلف أرجاء الشرق الأوسط. وكما تعلم روسيا على وجه اليقين، فإن الإصلاح الذي يكتب له النجاح يأتي من الداخل. فالشعب العربي لن يتقبّل أيّ اجراءات تفرض عليه من الخارج، أو أي سياسات تتجاهل تاريخنا وثقافتنا. وكيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟ فالعمليات الوطنيةُ المنبت وحدها دون غيرها يمكن أن تولّد الطاقة والالتزام اللتين يتطلبهما النجاح.

وأثناء انعقاد مؤتمر الثمانية الكبار في سي آيلاند (بولاية جورجيا الأمريكية) في حزيران (يونيو) الماضي، عبّر الرئيس بوتين عن تفهم روسيا الكامل لهذه القضية. وجاء البيان الختامي للثمانية الكبار يدعم بقوة الإصلاح النابع من داخل المنطقة. كما أن البيان أقرَّ بالحاجة لمساعدة الدول التي تتبنّى الإصلاح.

وهنا ثانية، دعمت روسيا اقتراح الأردن بأن يكون هناك التزام جاد بالتمويل لخطة إعمار جديدة للشرق الأوسط . ولكن الإصلاح في المنطقة لا يمكنه الفوز بالميدالية الذهبية إلا إذا سار السلام في مساره الصحيح. إذ يظل النزاع العربي - الإسرائيلي حاجزاً هائلاً أمام تحقيق الاستقرار والتقدّم في منطقتنا، وفي العالم.

فعلى مدى أجيال عدّة، كان حَصاد المعاناة الفلسطينية الإحباط والغضب. وتحقيق الأمن العالمي، والسلام العالمي، والأخلاقية العالمية، يتطلب أن نعطي هذا الجيل حصاداً أفضل. أصدقائي، أتوجه إليكم لأن تساعدونا في حلّ هذه القضية، وأن تساعدونا في حلّها بالسرعة الممكنة.

إن العالم العربي ملتزم بحلّ متوازن دائم للنزاع. فلسطين حرّة، وذات سيادة، وقابلة للحياة، وديمقراطية، ومتجاورة. وأمن حقيقي لإسرائيل لتعيش بسلام مع جيرانها. وعملية تؤدي إلى تسوية شاملة، تعالج المسارين السوري واللبناني.

وقد أعادت الدول الثمانية الكبار، في سي آيلاند في حزيران، تأكيد التزامها بهذه الأهداف، إضافة إلى التزامها بعراقٍ ديمقراطي، ذي سيادة، أُعيد بناؤه. وعلى المجتمع الدولي الآن أن يفي بهذه الوعود. ولنقم بتوجيه رسالة جديدة للشباب- في فلسطين، وإسرائيل، والعراق، وفي كل مكان آخر: " إن العدالة العالمية أمرٌ حقيقي، ويمكنها أن تحقق المُرتجى".

أصدقائي،

إن الهدفين اللذين أتحدث عنهما، وهما السلام والإصلاح، يعتبران محوراً مركزياً بالنسبة للأردن. فنحن في سلام مع جيراننا. وقد التزمنا بمجتمع حديث، متسامح، منفتح. وكي نتيح المجال للناس بمجموعهم بأن يكون لهم دورهم في عملية التغيير، تقدمنا بثبات وعزم لإحداث إصلاحات مؤسسية: تمثلت في إجراء الانتخابات، وتعزيز حقوق الإنسان، ودعم الحكم الذي يعتمد الشفافية ويخضع للمساءلة.

ولتمكين شبابنا من الوصول إلى غاياتهم، استثمرنا في التعليم بقوة. وقد صنّف تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية الذي صدر حديثاً، الأردن في المركز الأول في مجال الإصلاحات التربوية في العالم العربي.

وفي مجال الاقتصاد، نعمل على تعزيز النمو وتعظيمه من خلال دعم الإبداع والمشروعات. وقد أثمرت جهودنا. إذ تناقص الدين الخارجي، وتزايدت الصادرات، وأظهر النصف الأول من هذا العام نسبة نمو حقيقيّ بلغت 2ر7 في المائة.

وهدفنا الأول هو تلبية تطلعات شعبنا وحاجاته. ولكننا نأمل أن تُلهم مسيرتنا الآخرين: وهذا هو ما يستطيع أنموذج عربي إسلامي، وطنيّ المنبت والتوجّه، أن يحققه. وهذه هي الكيفية التي سنتمكن من خلالها من تحقيق السلام والازدهار اللذين يحتاجهما الشعب العربي بصورة ملحّة، واللذين يستحقهما هذا الشعب.

وبكل تأكيد، ما زالت تحديات كثيرة أمامنا. ولكننا ملتزمون بالمسيرة. ودعوني أقول لكم إننا نستمد التشجيع من المثل الذي يجسّده بلدكم. إن شجاعة روسيا مُلّهمة، وكذلك هو نجاحكم.

ونحن الذين نؤمن بمستقبل الشرق الأوسط ممتنّون لأصدقائنا الروس لما نلقاه لديهم من تشجيع ودعم. فنهج بلدكم المتوازن تجاه المنطقة، ودوره الهام في عملية السلام التي ترعاها اللجنة الرباعية، وخبرته في مجال الإصلاح ودعمه له، تُسهم جميعها في إحداث التغيير الإيجابي.

إن الأردن يثمّن عالياً علاقاته الثنائية الخاصة مع روسيا. وآمل أن تغدو لدينا شراكة أوثق في مقبل السنين. وهناك إمكانيات جديدة مثيرة في مجالات التجارة، والسياحة، والتبادلات الأخرى. والأردن، في واقع الأمر، بوابة المنطقة بأكملها، وهو بخاصة بوابة الجهود البالغة الأهمية لإعادة بناء العراق. وأقول لمجتمع رجال الأعمال الروس، ولأكاديميتكم وخبرائكم، ولقادتكم، تفضلوا إلى الأردن، واعملوا معنا، وكونوا معنا، ونحن نساعد في بناء الشرق الأوسط المستقبلي.

أصدقائي،

إن هناك فرصاً عظيمة تلوح أمام بلدينا، وأمام عالمنا، ونحن نعيش قرناً سيشارك فيه كل فرد في الازدهار والنمو في هذا العالم؛ وستتاح فيه الفرصة للشبّان لتحقيق تطلعاتهم وإطلاق طاقاتهم عندما لا يكونون مهددين بالارهاب والحقد؛ وعندما تتمكن فيه جميع الأسر من العيش بسلام. ومعاً، اعتقد أن لدينا الشراكة اللازمة للنجاح، وعالمنا لا يستحق أقل من ذلك.

وأشكركم جزيل الشكر،

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته