كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في جمعية الصحافة الأجنبية في لندن

٢٣ تشرين ثاني ٢٠٠٤

الشكر لكِ، كاثرين. والشكر لكم جميعاً على ترحيبكم الحار. ويسعدنا، رانيا وأنا، أن ننضم إليكم هذا المساء. واسمحوا لي أن أهنئ الفائزين بجائزة وسائل الإعلام، وأهنئكم جميعاً. فهذا المساء شهادة على التأثير الهائل لجمعية الصحافة الأجنبية. فعملكم يساعد وسائل الإعلام على خدمة الصالح العام في أرجاء العالم.

وعندما سألوني فيما إذا كنت أوافق على التحدّث هنا هذا المساء، رأيت في ذلك شرفاً كبيراً. ولكنني سأعترف أنني ترددت قليلاً. فأن يتحدث رئيس دولة في غرفة تعجّ بكبار الصحفيين يشبه إلى حدّ ما دخول عصفور الفري إلى مطبخ مليء بالطهاة الماهرين!!!

حسناً، لست متأكداً مما ستقررون عمله فيما يتصل بي، ولكنني آمل أن يكون جيداً.

وأود أن أتحدّث الليلة، بإيجاز شديد، عن التحدّيات العالمية التي نواجهها. وأهم من ذلك، عن الفرص المتوافرة لدينا للقيام ببعض التحركات الحاسمة تجاه تحقيق قدر أكبر من السلام والأمن.

وعندما أسست هذه الجمعية في عام 1888، ربما كان مفهوماً أن العديد من الناس رأوا البلدان الأخرى باعتبارها بلداناً أجنبية بعيدة. وهذا ليس هو الواقع اليوم. فلا يتسنّى لأي بلد في أي مكان أن يتجاهل العالم الذي يحيط بنا: النزاعات الإقليمية؛ والانقسام العميق ما بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون؛ والتهديد المزدوج للتطرّف والإرهاب. إننا نشترك في العيش على هذا الكوكب، ونشترك في مستقبله، جيداً كان أم سيئاً. وكمواطنين، وكمهنيين، وكأناس، فإننا جميعاً بحاجة لأن نسأل أنفسنا: ما هي مسؤوليتنا؟ ما الذي نستطيع عمله لدفع أجندة عمل إيجابية إلى الأمام؟

في الأسبوع الماضي أكّد كل من رئيس الوزراء توني بلير والرئيس جاك شيراك أهمية تعددية الأطراف؛ حسناً وأنا أعتقد أننا بحاجة إلى تعددية الأطراف في أنقى صورها: التحرّك العملي في كل اتجاه- الذي يشمل كل البلدان، وكل مجالات المجتمع، وكل مهارة لدينا. إننا جميعاً نسعى إلى عالم آمن مزدهر يظلله السلام. ولتحقيق هذا، علينا أن نعمل معاً - لإنهاء النزاع الإقليمي؛ وللاتحاد ضد الإرهاب، وللعمل على جسر الهوّة التي تفرّق بين الناس اقتصادياً وثقافياً.

ونحن أحوج ما نكون إلى مثل هذا الجهد في الشرق الأوسط. ففي منطقتنا، يسبّب النزاع معاناة هائلة، للضحايا ولجميع أولئك الذين يتصلون بهم. والعديد من الناس يعيشون في حالة فقر، أو يفتقرون إلى الفرص التي يستحقونها. وهم يرون، من خلال وسائل الإعلام، الوعد الرائع والإمكانات للقرن الذي نعيش فيه، ويرغبون في أن يشتركوا في هذه المكاسب. وعندما تواجه مثل الآمال بالإحباط، فإن الناس الطيبيين الذين يملأ نفوسهم الأمل- وخاصة الشبّان- يمكن أن يقعوا فرائس لتبلّد الحس أو الغضب. وردّا الفعل هذان كلاهما مميتان لمستقبل منطقتنا والعالم.

ولأولئك منّا الذين يؤمنون بمستقبل أفضل، فإن الإجابة واضحة: يجب أن يكون هناك إصلاح يهدف إلى تحقيق الحكم الصالح، والنمو الاقتصادي، والتنمية الوطنية. ومثل هذه العملية جارية فعلاً في الأردن حالياً. فبلدنا قام بإجراء تغييرات هيكلية لزيادة الفرص وبناء الحياة السياسية الديمقراطية. وحقوق الإنسان جزء أساسي رئيس من الجهود التي نبذلها. وقد أسسنا مركزاً لحقوق الإنسان، ليكون بمثابة ديوان للمظالم ونعمل لتمكين الشباب والنساء. ووجود صحافة مسؤولة مستقلة أمر أساسي لتحقيق التنمية في بلدنا. ويجري استصدار قوانين جديدة لفك الارتباط بين الحكومة وبين السيطرة المباشرة على مؤسسات الإعلام التي تملكها الدولة. وجرى وضع مسودات القوانين اللازمة لفتح القنوات الإذاعية والتلفزيونية العامة أمام المحطات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة. وقمنا بإلغاء وزارة الإعلام.

ونحن نعلم أن هناك عملاً ما زال ينتظر الإنجاز. ولكن الأردن حدّد خياره. ورؤيتنا تتمثل في مجتمع مدني حديث متجذّر في القيم العربية الإسلامية الحقيقية: التسامح، واحترام حقوق الآخرين؛ والإيمان بحكم القانون، وحفظ كرامة جميع الناس بدرجة متساوية، والعمل على تحقيق التميّز. وقد أصدرنا هذا الشهر رسالة عمان لجميع المسلمين وللعالم، مؤكدين صورة الإسلام الحقيقية، الإسلام الذي يقوم على السلام، والاعتدال،والتقدم. ونحن نؤمن أن الأردن يمكن أن يساعد في أن يبيّن للناس ما الذي يستطيع النموذج الذاتي النابع من الداخل أن يقدّمه في مجال تحقيق التنمية، والاعتدال، ومكافحة التطرّف، وتوفير أمل جديد.

والتعبير الذي أوردته وهو "النموذج الذاتي النابع من الداخل" تعبير مقصود. فالإصلاح الناجح يحدث نتيجة لجهود الناس من كافة شرائح المجتمع - من المعلمين والروّاد في مجال الأعمال، إلى القادة الدينيين. ذلك أن فرض أي عملية من الخارج لا يمكن أن يولّد ذلك النوع من الترابط. والإصلاح يجب أن يتجذّر في تاريخ منطقتنا، ومجتمعاتنا، وثقافتنا، والأناس المبدعون في أرجاء الشرق الأوسط يمهدّون الطريق لهذا الأمر.

إن إحداث الإصلاح مناط بنا. ولكن هناك دور أساسي آخر للمجتمع الدولي: وهو تحريك الأطراف نحو إحلال السلام. أيها الأصدقاء، نحن بحاجة ملحّة إلى أن نرى عراقاً ديمقراطياً، ذا سيادة، وقد أعيد بناؤه. وأتفق مع صديقي توني بلير عندما يقول: " إن الانتخابات لا الإرهاب هي التي يجب أن تقرر مستقبل العراق". وحتى نعمل على إيجاد مثل هذا المستقبل، يحتاج العراق إلى الأمن وعودة الحياة إلى طبيعتها، قريباً. والأكثر أهمية أنه يجب علينا وبصورة نهائية حلّ النزاع العربي الإسرائيلي، الذي يعتبر تحدّياً أساسياً للمنطقة والعالم، وقد تسبّب في معاناة لا سابق لها للأطراف. وهو يعيق الإصلاح والتنمية الإقليميين، ويسبّب الدمار للمدنيين في أرجاء العالم - ويتمثل في أزمة ثقة في العدالة الدولية، مما يعمل على إيجاد بيئات مؤاتية لإنبات العنف المتطرف.

وقد التزمت الدول العربية، في عام 2002، بحل يعتبر معلماً على طريق السلام ويقوم على وجود دولتين. دولة فلسطينية ذات سيادة، ديمقراطية وقابلة للحياة، وضمانات أمنية لإسرائيل لتعيش بسلام مع جيرانها. وهي عملية ستقودنا إلى تسوية شاملة، وتعالج المسارين السوري واللبناني. واتفق الطرفان على خريطة الطريق، واعتمدتها الدول الثماني الكبرى.

ولا أنقل إليكم أيَّ جديد عندما أقول إن التقدم كان غاية في البطء. وكل يوم من العنف المتواصل يساعد الذين يسعون إلى الحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وكل يوم من التأخير يعيق التنمية السلمية الديمقراطية في فلسطين، وأمن إسرائيل النهائي المنشود، والسلام العالمي.

لقد حان الوقت لنمضي قدماً. فوفاة الرئيس ياسر عرفات لفتت أنظار العالم وفتحت فصلاً جديداً في عملية السلام. وقد قمت بحثّ المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بإعادة الالتزام بالتقدّم الجديد المتّصف بالجرأة.

ويمكن لوسائل الإعلام العالمية أن تساعدنا جميعاً على أن نوجه أنظارنا إلى الجائزة - تحقيق هدف السلام. فالفلسطينيون والإسرائيليون و على حدٍ سواء ينادون بأعلى أصواتهم من أجل السلام. استمعوا إليهم. وساعدوهم. وكونوا صوتهم.

وفي الواقع، ففي الشرق الأوسط وفي كل مكان في أرجاء العالم، فإن الأخبار المتوازنة ذات المصداقية تتيح للناس أن يروا ما وراء التوترات ليتبينوا المصالح التي يشترك الناس بها. وأنهار العنف قد تفرق المجتمعات، ولكن علينا أن نتذكر دائماً أن الإنسانية ذاتها هي التي تقف على الضفتين كلتيهما. وكمهنيين، فإن معرفتهم وانفتاحهم وموضوعيتهم توفر جسراً للتلاقي بين الناس.

واسمحوا لي أن أقول كلمة خاصة عن الإرهاب وأدوات الاتصال. فالتطرّف العصري يعتمد بصورة كبيرة على قدرته على توجيه رسالته: ولكن دعونا نتذكر أي نوع من الاتصال هذا: فهي ليست رسالة تعقّل ولا رسالة حوار، ولكن رسالة رعب وتوجيه أوامر. والإرهابيون لا يخضعون للاستجواب الحرّ المفتوح، ولا يحترمون استقلال وسائل الإعلام أو سلامة الصحفيين. وفي العالم الذي يسعون إلى إيجاده ليس هناك حق لحرّية الصحافة، التي لا تشكّل حتى هدفاً لهم. ولهذا فإن الصحافة الحرّة المسؤولة تخدم الإنسانية ومستقبلها عندما ترفض أن تستعمل كأداة لإثارة الكراهية والحقد والعنف وعندما تسعى للوصول لحقيقة إنسانيتنا المشتركة.

وقبل حوالي ألف عام أو أكثر، وهنا في بريطانيا لم يكن هناك صحفيون. وقد نقلت مُسَجَّلات الرهبان إلينا أحداث العالم الهامة. وفي ذلك العصر، كانت "الأسفار الأنجلوسكسونية" هي المعنية بنشر كل الأخبار الجديرة بأن تُنشر. وكانت المواد الإخبارية تبدأ بعبارة "في هذه السنة...." وكان بعضها غاية في القصر:

  • في هذا العام - النجم المذنّب.
  • في هذا العام- مجاعة كبيرة.

وفي بعض المواد تكاد أن تسمع المحرّر يقول:

  • في هذا العام - عاد الجيش إلى يورك، ومكث هناك عاماً.

أصدقائي،

أنتم اليوم مَنْ يسجّلون أسفار مستقبلنا. وفي الأيام القادمة ستسجلون الأحداث الهامة في زمننا. ومعاً آمل أن نتمكن من أن نكتب حقيقة جديدة:

  • في هذا العام - فلسطين مستقلة.
  • في هذا العام - السلام لإسرائيل والشرق الأوسط.
  • في هذا العام - وعد جديد لجميع شعوب الأرض.

شكراً جزيلاً لكم.