خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في نادي الصحافة الأوروبي - الأمريكي

٢٠ آذار ٢٠٠٦

 

بسم الله الرحمن الرحيم،

[ كريستيان]، الصحفيون الأفاضل،

أشكركم جزيل الشكر، ويسعدني أن أرى العديد من الوجوه المألوفة، كما يسرني أن أكون في فرنسا مرةً أخرى. لقد أَفْرد والدي جلالة الملك الحسين مكانةً خاصة في قلبه لهذا البلد العظيم. وأنا أقدّر بعمق الترحيب الحار الذي نلقاه، أنا وأسرتي، منكم دائماً. ويشرفني أن أحظى بهذه الفرصة للتحدّث إليكم هنا اليوم.

أصدقائي،

إننا نعيش، بكل صراحة، لحظة اضطراب عالمي هائل. وما يستشعره العديد منا من جزع جسّده ما ظهر مؤخرا في مقالة تحت عنوان: " نهاية التسامح". وقد أدّى إلى ظهوره، بالطبع، الجدل الذي دار حول الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى النبي محمد - صلوات الله وسلامه عليه.

وقد قيل الكثير عن أزمة الرسوم الكاريكاتورية وكيف تنامت. واسمحوا لي أن أقول ببساطة إن المسلمين في أرجاء العالم - وأنا واحد منهم - أدانوا الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كما أن غالبية المسلمين أدانوا أيضاً العنف الذي تلا نشر الرسوم باعتباره غريباً على مبادئ الإسلام. وأنا أعلم أن العديدين في الغرب رفعوا أصواتهم رافضين هذه الإساءة للدين الإسلامي.

إن الجدل الذي ثار حول الرسوم الكاريكاتورية كشف عن مواطن الخلل في مجتمعنا العالمي. فقبل فترة ليست بالبعيدة، كانت رؤيتنا لعالمنا على أنه عالَمٌ يتميز بالعلاقات المتشابكة الديناميكية والتسامح بين الثقافات المتعددة. ولكن الحديث الآن يدور حول صراعٍ بين الحضارات، مع أن هناك تفاعلا بين ثقافاتنا واقتصاداتنا أكثر من أي وقت مضى. ذلك أنّه في الوقت الذي نما فيه عصر العولمة، فإن النمو لم يتمّ بالطريقة المثلى؛ فهو لم يتجاوز مرحلة التسامح إلى إيجاد ثقافات الاحترام المبنية على التفاهم.

ليس هناك صراع بين الحضارات. ولكننا تلقينا مؤخرا تحذيراً بالغ الأثر. ونحن نعلم أيضاً أن بيننا مَنْ يسعون لتعميق مواطن الخلل، معتمدين على افتقارنا لفهم بعضنا بعضاً، لإيقاد شرارة زلزال من الغضب، والرفض، والخوف. ولا ينطبق هذا على الحال بين الشرق والغرب فحسب، بل في داخل الثقافات الشرقية والغربية نفسها.

يجب ألا نخطئ في قراءة ما يعنيه صراع الحضارات على أرض الواقع والذي يتمثل في تصدّع روابط التجارة والاستثمار التي تعتبر أساسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل؛ وقيام الحواجز أمام ما يوضع من حلول للمشكلات عبر الحدود في مجالات الصحة، والبيئة، والفقر، وغيرها كثير؛ ونرى ذلك أيضا في تراجع تعاوننا الأمني المشترك الذي لعب دوراً أساسياً في احتواء وإنهاء النزاعات الإقليمية؛ وقيام العوائق الخطيرة في طريق التنمية العالمية؛ وتوقّف التبادل الثقافي الذي يُثْري الحياة في كل مكان.

إن أصدقاءنا الفرنسيين كانوا على المدى الطويل جزءًا من المشهد العام في الأردن وتمثل ذلك في المركز الثقافي الفرنسي، وفي مدرسة تراسانطة، وفي مدرسة الفرير، وكثير غيرها. وأهل العلم والباحثون من بلدينا يعملون معاً - في الأردن، وفي فرنسا، وفي فضاء الإنترنت. وقد استثمر رجال الأعمال الفرنسيون 800 مليون يورو في مشروعات أردنية رئيسية، وفرت وظائف لآلاف الناس. وهنا في فرنسا يعمل الآلاف في صناعات تُصدّر البضائع إلى الأردن. وعلى امتداد المعمورة، تعمل قوات حفظ السلام الأردنية والفرنسية جنباً إلى جنب في مواجهة الأزمات كأزمة كوسوفو. وفي النواحي الدبلوماسية، يتعاون بلدانا لتحقيق الأهداف المشتركة.

واسمحوا لي أن أقولها بوضوح وبساطة: إن الشرق الأوسط يحتاج إلى أوروبا، وأوروبا تحتاج إلى الشرق الأوسط. ولكن المجتمع العالمي السلمي المتكامل الذي نحتاجه جميعاً لن يتشكّل من تلقاء نفسه. فهو بحاجة إلى جهودنا النشطة الواعية - للانتقال من ثقافات التسامح إلى ثقافات الاحترام؛ ولإيجاد التقدير الحقيقي لدى كل منّا لمعتقدات الآخر، وهمومه، وأهدافه؛ وللوصول الى تفاهم جديد نتبين فيه ما بيننا من اختلافات، ونتبيّن أيضاً القيم القوّية التي تربط فيما بيننا.

إن جَسْر هوّة الاحترام يتطلب التزاماً منا جميعاً. فقد أطلقنا في الأردن، في تشرين الثاني عام 2004، رسالة عمّان. وهي توضيح للصورة الحقيقية للإسلام ودعوة للتعايش السلمي بين جميع بني البشر. وأنا أؤمن بأن هذه المبادرة توفر برنامجاً للتحرك إلى الأمام وللتحدث بجرأة ضد الكراهية والجهل ... وللعمل معاً من أجل الخير العام ... ولتجنب صدام سيجلب الضرر علينا جميعاً.

إن للقيادة السياسية والدينية دورا أساسيا. وفي المجتمع الإسلامي على امتداد العالم، رفع العديد من القادة، على جميع مستويات المجتمع، أصواتهم لإعادة تأكيد التزام الإسلام باحترام الآخرين. وفي تموز الماضي اجتمعت نخبة من العلماء المسلمين المتميزين من أرجاء العالم للمضي قُدُماً بما ورد في رسالة عمّان. وقد توجّه البيان الذي أصدروه لمعالجة جذور التطرّف بأن أكدوا افتقار الإرهاب إلى أي شرعية إسلامية. وفي كانون الأول، صادقت منظمة المؤتمر الإسلامي على المبادئ والتوصيات التي وردت في البيان الصادر عن العلماء.

وعلى منطقتينا أن تبنيا على الروابط الثنائية والروابط المتعددة بينهما لتقوية التفاهم نحو مستقبلنا المشترك، ولتعزيز التعاون الفعّال. ويمكن للأطر المؤسسية العالمية أن تلعب دوراً مركزياً في تحديد الاستراتيجيات والوسائل. فعملية برشلونة تشير بوضوح إلى التعاون الثقافي باعتباره واحداً من العناصر الأساسية الثلاثة للأمن والتقدّم. ويمكن للشراكة الأورومتوسطية أن تسير بذلك إلى الأمام. إننا بحاجة إلى تقوية مثل هذه المبادرات وتوسيع نطاق تغطيتها.

وفيما يتصل ببناء الاحترام، فإن للحوار النشط بين الشعوب أهمية بالغة أيضاً. فقد توصل عالمنا الى هذه الحقيقة في نهوضه لرأب الصدع الذي احدثته الانقسامات العنصرية؛ وتعلمنا ذلك ايضا في إقامة السلام بين الأمم؛ كما أن الحوار يعتبر عنصراً مركزياً في التناغم والانسجام بين الأديان أيضاً.

أصدقائي،

اسمحوا لي أن أقول إنكم، أنتم القيٌمون على وسائل الإعلام، تقومون بدور ذي شأن هام. وباعتباركم مراقبين وخبراء اتصال، فإنكم القناة التي تتواصل من خلالها الثقافات والمجتمعات مع بعضها بعضاً. وعملكم يضعكم في موقع متميز تستطيعون فيه التعلّم - بصورة مباشرة وبعمق - حول المجتمعات والأديان والتقاليد والقيم. كما أنكم تسهمون بصورة مباشرة في التفاهم العالمي من خلال تجنّب التشويهات وتصحيحها ... ورفض إثارة مشاعر الكراهية ... وتوفير النقد والتحليل المستندين الى المنطق ... وتصوير الأبعاد الكاملة لحياة الناس: من هموم وانتصارات وآمال وشعور بعدم الاستقرار.

إن هذه الخطوات وغيرها أساسية ونحن نواجه تحدّيات زماننا لتحقيق ما يحمله لنا هذا القرن الجديد من إمكانات، ورفع شأن الملايين الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة الفقر والنزاعات.

إن العالم بأجمعه له مصلحة في عراقٍ مستقر يتطلع للأمام. والهجمات الشريرة الإجرامية التي جرت في الشهر الماضي على الأماكن المقدسة قُصد بها بصورة لا تقبل الشك إشعال فتيل الفتنة الطائفية. وقد قمت، مرارا، بحثّ العراقيين على الوقوف معاً والوقوف بحزم في وجه مثل هذه الاستفزازات. وللسير بهذه القضية إلى الأمام، دعا الأردن إلى عقد مؤتمر في عمان .... يجمع القادة الدينيين العراقييين ليتلمّسوا السُبُل للحفاظ على وحدة العراق ... ولأن يعيدوا له، في أسرع وقت ممكن، أمنه واستقراره.

كما أن عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية وصلت إلى نقطة حرجة. والسلام الدائم وحده سيمكن الشعبين في الجانبين من بناء المستقبل الإيجابي الذي يحتاجونه. والضمان الوحيد للسلام هو الحل الذي يقوم على وجود دولتين: دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة، تقوم إلى جانب إسرائيل آمنة. وبين الوقائع الماثلة في أيامنا هذه، وذلك المستقبل الإيجابي، هناك حاجة ملحّة لبناء بعض الجسور الجديدة. والأساس للسلام هو الاحترام ولا يمكن أن يكون أي شيء آخر.

أصدقائي،

إن التقدم في إحراز السلام - سواء في الشرق الأوسط، أو في آسيا الوسطى، أو في أوروبا، أو في إفريقيا - يتطلب منا مقاومة من يسعون إلى زرع الفُرْقة بيننا. فلنعمل على أن نجعل نهاية التسامح الخطوة الأولى على طريق جديد يؤدي إلى ما بعد التسامح: إلى ذلك النمط من التفاهم الحقيقي الذي يرفع من وتيرة احترام بعضنا لبعض.

إن التنوع جزء من الفطرة الإنسانية. وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:

{يا أيها الناس، إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الحجرات:13].

والأمر عائد لنا، هنا وفي هذه اللحظة، كي يعرف واحدنا الآخر، ونوثق الروابط بيننا. وبمشيئة الله، سنتمكن من القيام بهذا، والانطلاق إلى الأمام.

ولكم جزيل الشكر.