خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في معهد أسبن

٢١ تموز ٢٠٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

بيل،

ليستر،

وولتر،

أصدقائي،

أشكركم على ترحيبكم الحار، وشكراً لك أيها الصديق الطيب، ليستر، على تقديمك اللطيف. لقد كنت أتطلع إلى الحضور إلى معهد أسبن منذ فترة وأذكر في هذا الصدد أول مرة وجهت لي الدعوة للقدوم إلى هذا الصرح - وكدت أن آتي - إلا أنني اضطررت إلى إلغاء الموعد نظرا لاجتماع تمت الدعوة إليه في البيت الأبيض. ولهذا، فاسمحوا لي أن أتقدم من بيل وليستر ووولتر بالشكر على مساعدتهم في إتاحة الفرصة لي لأن أكون هنا اليوم.

إن هذا المعهد يحظى باحترام كبير في منطقة الشرق الأوسط وذلك لاهتمامه بصورة جدية بالحوار العالمي... ولسعيه لتوظيف أفضل القيم الأمريكية. واليوم، يشرفني أن أتبع خُطَى قادة العالم الذين شاركوا وتحدثوا في الاجتماعات هنا.

أصدقائي،

إذا ما نظرتم إلى المناظر الجبلية الرائعة التي تتمتع بها أسبن، فربما كان من السهل أن تظنوا بأن الشرق الأوسط بعيد جداً. وفي الواقع الجغرافي، فإن 11.000 كيلو متر تفصل بيننا - أي حوالي 7.000 ميل. أما في الواقع الإنساني، فإننا بالكاد ننفصل عن بعضنا بعضاً. فالأمريكيون - وربما العديد منكم - لديهم أُسَر في منطقتي. كما أن لكم شركاء اقتصاديون وزملاء أكاديميون وحلفاء في السعي من أجل تحقيق الأمن والتنمية في العالم. ومنطقتي تحتفظ كذلك ببعض أعمق الجذور الثقافية والدينية لبلدكم، وهي تحتفظ بمستقبلكم أيضاً. وليس هناك من منطقة أخرى تقوم بمثل هذا الدور الاستراتيجي، فيما يتصل بآمال وإمكانات أمريكا القرن الحادي والعشرين - اقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً. وليس هناك من مكان آخر للحديث بصورة مباشرة عن الدور القيادي العالمي للولايات المتحدة الأمريكية، مثلما هو واقع الأمر في الشرق الأوسط.

إنني على يقين أنه وفي خضم سنة الانتخابات الرئاسية هذه، فإن الأمريكيين منشغلون في حوار وطني، حول التحديات العالمية وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا في الشرق الأوسط. وغالبا ما يتم سؤالي عن النصيحة التي قد أقدمها للرئيس الذي سيستلم زمام الحكم في العام القادم. ونصيحتي الأولى بالطبع أن لا تقدم نصائحك الشخصية، تحت أي ظرف، في قاعة يحتشد فيها 800 شخص.

ولكن الحقيقة هي أن همومي فيما يتصل بالعالم ومنطقتي واضحة بصورة تامة. فأنا أرى أننا على مفترق طرق - في زمنٍ يتصف بالخطر والتحدي، ولكنه أيضاً مليء بالفرص الفريدة. فالسلام في الشرق الأوسط قابل للتحقيق... وكذلك مستقبل المنطقة كواحة للازدهار والاستقرار. وهذا أساسي من أجل تحقيق السلام والتقدم في عالمنا. ولكي تتحرك الأحداث في الاتجاه الصحيح، فعلى بلدينا أن يمتلكا الإرادة للعمل. ولأمريكا دور بالغ الأهمية، كشريكة لأصدقائها، وكداعية قوية لتحقيق الأهداف التي نشترك فيها.

وعن هذه الشراكة بالذات، أود أن أتحدث اليوم. وآمل أن تستمعوا إلى كلماتي باعتبارها صادرة من صديق ومن شخص يقدر العمل الجاد من أجل السلام الذي قامت به هذه الإدارة والإدارات الأخرى ومجالس الكونغرس التي تعاقبت على بلادكم، ومن شخصٍ يعرف الشعب الأمريكي وقيمه ونواياه الطيبة.

في العام الماضي، شارك معهد أسبن في دعم استطلاع للرأي العام، أظهرت أن غالبية الأمريكيين قلقون حول صورة بلادهم في العالم. ولكن مرة بعد مرة، أرى شعوب العالم تتجاوب بالقبول الكبير وذلك عندما تشعر أن القيم الأمريكية يَظهرُ تأثيرها للعيان، وهي القيم المتمثلة في الدفاع عن العدالة والكرامة المتساوية لكل شخص وتوافر الفرص بصورة عادلة، وحماية الضعفاء واحترام البلدان الأخرى، صغيرها وكبيرها. وهذه المُثُل بمجموعها هي موروث الولايات المتحدة، ويجب أن تكون وَعدها في المستقبل.

وفي الشرق الأوسط، فإن الفرصة قائمة لإحداث تأثير تاريخي قِوامُهُ سلام بين العرب وإسرائيل، سلام يخفف المعاناة الإنسانية التي مرت عليها عقود، ويعمل على المضي قُدُماً وإحداث التقدم في هذه المنطقة الإستراتيجية ويرفع من وتيرة قوى الاعتدال في وجه التطرف، ويُرسي قاعدةً لمستويات جديدة من التعاون، خاصة بين العالم الإسلامي والغرب.

وليس هناك من صديق للسلام يمكنه أن يفعل أكثر مما تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعله لتحقيق هذا الهدف حيث يبين لنا التاريخ أن وراء كل حدث بارز في عملية السلام الطويلة هو الحضور المُلتزم للولايات المتحدة الأمريكية وذلك في كامب ديفيد، ومدريد، وواي ريفر، وآنابوليس، والكثير غيرها. والآن، تلوح في الأفق مسألةُ إتمام هذه المهمة، وهي فرصة حاسمة للوصول للسلام والعدالة اللتين يأمل ويتوقع الملايين من الناس تحقيقها.

لقد كان هذا العام عاماً نَشطاً بالنسبة لنا، نحن الذين نعمل من أجل مساعدة الأطراف المعنية على تحقيق تسوية نهائية وشاملة. وفي محادثاتنا مع كلا الجانبين، نرى تفاؤلاً حول عملية السلام. لكن الأمر الذي يستأثر اهتمامي ويثير قلقي بدرجة كبيرة هو أن نتائج هذا العام على الأرض لم تكن في مستوى الطموح. ولا أستطيع أن أخفي عنكم ما يشعر به الشعب العربي من خيبة أمل حيث ما زلنا نرى إسرائيل تبني المستوطنات في الضفة الغربية المُحتلة، ونرى الجدران وحواجز الطرق وهي تُقطع أوصال المجتمعات الفلسطينية؛ ونرى الاقتصاد الفلسطيني في حالة فوضى وتخبط، ونرى قراراتٍ وأحكام دولية مرت عقود عليها يتم تجاهلها مع عدم معاقبة المسؤول عن ذلك.

إن مثل هذا الوضع يفاقم الخطر الذي تمثله الجماعات المتطرفة، وينشر أجنداتهم التي تقوم على النزاع والفُرقة. فعلى المستوى الإقليمي، ازداد العنف المدفوع بالتطرف بصورة كبيرة. والشرق الأوسط يحتاج بصورة مُلحة إلى أفق استراتيجي للتعامل مع هذه التحديات، أفق يعمل على وضع السلامَ في قمة الأولويات وما يمثله هذا الأمر من مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية. وإذا لم تظهر لعملية السلام بعض المكاسب على الأرض، فإن النفوذ الأمريكي والمصداقية الأمريكية سيتقلصان بصورة دراماتيكية. وستواصل قوى التطرف اندفاعها لإبعاد المنطقة عن الاعتدال، وإبعادها عن الشراكة مع الغرب.

ومن جانب آخر، فإن تحقيق اختراق تاريخي في عملية السلام سيبعث بإشارة قوية تقول للناس، وخاصة شباب العالم، بأن الولايات المتحدة الأمريكية تعني ما تقول حول العدالة والشراكة وأنها مستعدة لإتمام السير، في عملية صعبة، حتى تتأكد من إحقاق العدالة. وسيبعث هذا الأمر أيضا برسالة للمجتمع الإسلامي العالمي بأن الأمريكيين يتجاوبون مع قلقهم الذي استمر عقوداً حول القضية الفلسطينية. وسيقول لشبابنا أيضا بأن الالتزامات العالمية التي تدعمها أمريكا تشمل دعم حقوقهم أيضاً.

ودعوني أضيف إلى هذا بأن السلام يحتاج إلى العمل الجاد على الأرض، إضافة إلى العمل على طاولات المفاوضات. فهناك حاجة إلى الحكومات والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، جميعاً، لخلق الظروف لتحقيق سلام مُستدام ولإعادة التقدم باتجاه الحياة الطبيعية. وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأعرب عن تقديري لمعهد أسبن على إسهاماته الإبداعية خاصة فيما يتصل بالشراكة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والفلسطينيين وصولا إلى مجموعتكم المعروفة بمجموعة استراتيجية الشرق الأوسط. وأنا شخصياً أقدر بصورة خاصة تأكيدكم على أهمية النتائج العملية. وبالنسبة للناس الذين تساعدون في تغيير حياتهم، فإن هذا المعهد يمثل روح أمريكا، بل إنه يمثل شراكة رابحة لشعبينا، مما يسهم في خلق مستقبل أفضل للعمل معاً.

إن الشراكات القائمة على الاحترام ذات أهمية بالغة في صنع السلام. ومن الأمور المُلحة لأصدقاء المنطقة أن ينهض هؤلاء الأصدقاء لدعم من يعمل على مساندة التحرك الإيجابي. وإذا كانت السياسة المطلوبة هي عزل المتطرفين والضغط عليهم، دون دَعم نَشِط للقوى الشرعية المعتدلة، فإن الناس لن يروا تحسنا في الظروف، وستفقد السياسات المصداقية. أما في الضفة الغربية، فسيعني هذا الأمر مساعدة السلطة الوطنية الفلسطينية لتحقيق الأمن، واعتماد أساليب الحكم الرشيد، ونشر الأمل وتخفيف حواجز الطرق وإعادة الأطفال إلى المدارس وخلق الوظائف. وفي لبنان، سيعني الوقوف خلف السيادة الشرعية للدولة، والحل السلمي للقضايا. وفي العراق، سيعني مد اليد إلى السنة والشيعة والأكراد وهم يعملون على تحسين ظروف الحياة، وعلى التقدم نحو الخطوة التالية.

كما أن الشراكات القائمة على الاحترام هي أساسية لدعم الديمقراطية والتنمية في العالم حيث تنخرط البلدان في أرجاء الشرق الأوسط، حالياً، في تطبيق الإصلاحات التي نحتاجها لمساعدة شعوبنا على الازدهار والشعور بالأمن. ونحن نشترك في الأهداف والمعايير مع البلدان الناجحة في أرجاء العالم، بما في ذلك الغرب. ولكن ليس هناك من وَصفة خارجية جاهزة لأساليب الحكم الرشيد، والنجاح الاقتصادي، والتقدم الاجتماعي. وللغرب دور هام في تفهم ما نحاول القيام به ودعم الإصلاح. وهذا الأمر هو في مصلحة أصدقائنا أيضاً، فنجاح الإصلاح في الشرق الأوسط سيعزز الاعتدال والاستقرار في منطقتنا. وسيضيف قوة جديدة إلى الشراكة العالمية من أجل التعايش والأمن في هذا العالم المتشابك.

أصدقائي،

وصف إبراهام لنكولن أمريكا على أنها بلد أُسّس على الأمل، لا من أجل شعبها فحسب، بل للعالم أجمع أيضاً. فالاستقلال وحكم القانون والقبول بين مختلف الأديان والثقافات والفرص للجميع كلها قيم تحملُ الوعد بعالم آمنٍ مُزدهر.

والأمر ليس في أن القيم الأمريكية غدت عالمية. بل الأمر في أن القيم العالمية تَصِلُ ما بين شعوبنا في شبكة مترابطة الأوصال. إنني على يقين أنه هنا في أسبن وفي أمكنة أخرى، يتحدث كبار مُنظري التكنولوجيا عن ما يعرف بتقنية كلاود وهي تلك الشبكة التي بدأت بالظهور بالمعلومات والصوت والصورة معاً، مما يُتوقع معه أن تتيسر لنا خيارات وإمكانيات جديدة. وربما كان علينا أيضاً أن نتحدث عن شبكة نظيرة للقيم، أي بنية عالمية مترابطة من التطلعات والأهداف المُشتركة تمكننا من الحصول على فرص جديدة واسعة كي نتعاون ونتقدم.

واسمحوا لي أن أبدأ في هذا الأمر بين أمريكا والشرق الأوسط، والعالم الإسلامي ككل. وأنا أحث الأمريكيين للانضمام لنا في حوارٍ وجهاً لوجه، من ذلك النوع الذي يمكن أن يحطم المفاهيم الخاطئة ويساعد الناس على اكتشاف الأرضية المشتركة بينهم. وأحث أمريكا وجامعاتها ومراكز الفكر والدراسات فيها لإبقاء الأبواب مفتوحة أمام الشبان العرب الذين يتوقون إلى العمل معكم. وأحثكم على أن تعملوا مع دول منطقة الشرق الأوسط لنحقق معاً التقدم الملموس الذي نسعى إليه. وأحث هذه الأمة العظيمة على الإمساك بزمام الجهد الدولي الذي يجب أن نَحظى به لإيجاد تسوية سلمية تاريخية، وخلق مستقبل جديد للفلسطينيين والإسرائيليين معاً. فهذه هي قوة شراكتنا. والملايين من الناس بحاجة إلى رؤيتنا ونحن ننجح.

ولكم جزيل الشكر.