خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الذكرى السنوية العاشرة للقمة الأورومتوسطية

٢٨ تشرين ثاني ٢٠٠٥

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب المعالي والسعادة،

سعادة المفوض [فيريرو- والدنر]،

أصدقائي،

أتحدث إليكم هذا المساء نيابة عن الملايين من الأردنيين الذين ينشدون السلام العالمي، متحدّين الإرهاب والكراهية.

إن التفجيرات التي شهدتها عمّان هذا الشهر تقدّم دليلاً، مرة اخرى، على الحاجة الملحّة لأن نعمل معاً في دفاع عالمي لحماية شعوبنا ومستقبلنا. ففي عمّان... مثلما هو الحال في شرم الشيخ، والدار البيضاء، والرياض، واستانبول، ومدريد، ولندن، وأماكن أخرى... أظهر المتطرفون ازدرائهم للإنسانية. فأجندتهم مناهضة للإسلام بصورة عميقة. فلا يستطيع أحد أن يقتل المدنيين الأبرياء إلا بتشويه التعاليم الحقيقية للإسلام والابتعاد عنها.

يقول القرآن الكريم :

{يا أيها الدين آمنوا ادخلوا في السلم كافة...} (سورة البقرة:2)

وينبّه، في قوله تعالى: {... ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين} (سورة المائدة: 87).

أصدقائي،

إن العالم العربي لن يعود إلى الخلف، ولن نغلق الأبواب أمام إتاحة الفرص لشبابنا. ولن نوقف الحوار والتعاون مع أصدقائنا في أرجاء العالم. وسنساعد في قيادة هذا القرن - الذي سيجلب معه، بمساعدتنا، السلام، والحرية، والازدهار لبلايين الناس.

إن علاقتنا بأوروبا هي مفتاح لذلك المستقبل. فقبل عشر سنوات أقرَّ مؤتمر القمة الأورومتوسطية الأول المصير المشترك لمنطقتينا. واعترف، بصراحة، بأن الأمن والازدهار الدائمين لا يمكن تحقيقهما وبلادنا تعيش في عزلة. وأقرَّ بأن علينا أن نتصدّى للفجوات الاقتصادية بين منطقتينا؛ وأن علينا أن نعمل معاً من أجل السلام. كما أسّس الأطر للشراكة والتقدم.

واليوم، تبدو الشراكة الأورومتوسطية أكثر أهمية من أي وقت مضى. فنجاحها سيوفر الفرص التي يحتاجها شبابنا... ويعمل على إيجاد الاستقرار الذي تحتاج الحرية إليه لتزدهر... ويوفر أنموذجاً عالمياً للاحترام المتبادل بين الدول. وهذا يجعل التعاون والحوار أكثر من مجرّد مُثُل - فهي استراتيجيات أساسية هامة لمستقبل ملؤه السلام والرفاه.

إن المتطرفين يعملون بكل طاقاتهم لتقسيم العالم إلى معسكرات متعادية، لأنهم يدركون مدى القوة التي يوفرها لنا تعاوننا ... وعلينا أن نهزم استراتيجيتهم. وهذا يتطلب العمل على جميع الجبهات: التعاون الأمني الفعال، نعم، ولكن أيضاً التواصل الاقتصادي، والقانوني، والاجتماعي، والسياسي.

إن الشراكة الأورومتوسطية تتبيّن هذا النهج الشمولي. ويعتز الأردن بأن كان أول دولة مشرقية وقعت اتفاقية شراكة... وكنا من أوائل الذين شاركوا في "سياسة الجوار الأوروبية"... وحققنا تقدماً ملحوظاً في وضع خطة عمل مشترك. وقد انضم الأردن، في العام الماضي، إلى مصر وتونس والمغرب في التوقيع على اتفاقية أغادير، وهي خطوة على طريق توثيق التعاون الإقليمي... الذي هو من أهداف "عملية برشلونة".

إن مشاركة الأردن الفعّالة في هذه الجهود، وفي غيرها، تعكس رؤيتنا الوطنية الأوسع. فنحن نسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والإصلاح: لا اتخاذ القرارات المحدودة التأثير على المدى القصير، ولكن إحداث تغيير عميق دائم يعم خيره على جميع المواطنين... وكي نسير بهذه العملية قُدُماً، جمعنا المعنيين من مختلف شرائح المجتمع ليشكلوا لجنة الأجندة الوطنية للأردن. فطاقة المجتمع المدني والقطاع الخاص ودعمهما ضروريان أساسيان، وقد أشركناهما في جميع الخطوات من البداية حتى النهاية.

واسمحوا لي أن أقول لكم إن قوة المجتمع ا لأردني وإرادته تبدّتا بصورة عظيمة في التجاوب الوطني ضد الجرائم الجماعية التي ارتكبت في عمّان. إذ سار الناس من مختلف فئات المجتمع ومشاربه في مسيرات تضامن ضد تهديدات المتطرفين لوطننا. وقاموا بأكثر من ذلك: إذ عادوا لمزاولة أعمالهم، يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، ليُظهروا إيمانهم الذي لا يشوبه خوف بمستقبل بلدنا.

إن الأجندة الوطنية تعمل على مأسسة الإصلاح، من خلال تبيان أولوياتنا للسنوات العشر القادمة وتسليط الضوء عليها. ومتطلباتها تلتقي مع أهداف الخطة المشتركة للأورومتوسطية وتزيد عليها. وأهدافنا واضحة: مؤسسات سياسية فعّالة شاملة ... اقتصاد متنامٍ غنيّ بالفرص... ومستقبل واسع الآفاق لجميع المواطنين. وقد أكدنا بصورة خاصة على حقوق الإنسان... وتمكين المرأة ... وتوفير التعليم والفرص لشباننا.

إن تقرير لجنة الأجندة الوطنية قد قدّم لي في الأسبوع الماضي وسيبدأ وضعه موضع التنفيذ. والأردن ملتزم بصورة مطلقة لا تقبل التأويل بالانطلاق قُدُماً. ونحن ممتنون بدرجة كبيرة لشركائنا الأوروبيين لما يقدمونه من دعم.

أصدقائي،

إن الشراكة الأورومتوسطية تحمل معها الوعد لبلداننا جميعاً. ولكنها لم تعط ثمارها بعد في أعظم الآمال المعقودة عليها: السلام، والاستقرار، والازدهار عبر محيطنا بأكمله.

إن مفتاح مستقبلنا يتمثل في حوار جديد للثقافات - حوار يمكن أن يعزّز الجوامع المشتركة بيننا. فكل منا يتحمل مسؤولية تشجيع الاحترام ما بين الثقافات والاحترام ما بين الديانات اللذين يقوم عليهما مثل هذا الحوار.

ويعمل الأردن مع المجتمع الإسلامي العالمي لمناهضة العنف الذي يلجأ إليه المتطرفون والتعاليم غير الصحيحة التي ينشرونها. فقبل عام أصدرنا رسالة عمّان - وهي دعوة إلى التعايش السلمي والتقدّم. وهي تدعم التسامح واحترام الآخرين، والسعي نحو إحقاق السلام. وأتبعناها بإجراءات ملموسة للتأكيد على جوهر الإسلام وما يمثله من اعتدال. ونعمل مع أصدقائنا الأوروبيين لزيادة التفاهم والنوايا الحسنة.

وعلينا معاً أن نغلق مسارب سوء الفهم، والفُرقة، والإحباط. وعلينا، يا أصدقائي، أن نعمل على إحلال السلام في الشرق الأوسط.

ففي مجال صنع السلام، عمل الأردن- كما كان حاله فيما يتصل الإصلاح- بصورة متواصلة على إيجادعملية يمكن قياس مدى تقدّمها بحيث تكون هناك معالم للقياس على طول الطريق، ونهاية واضحة للعملية. للفلسطينيين، للأسرائيليين : حل دائم عادل... دولتان تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن... دولة فلسطينية ذات سيادة، قابلة للحياة، والأمن لإسرائيل... وتسوية شاملة يمكنها أن تحقق الوفاق الإقليمي. وللعراقيين، إعادة الإعمار والأمل: عراق مستقر مُوحدّ، يعاد بناء اقتصاده، ويشمل مجتمعه المدني الجميع دون إقصاء.

إننا بحاجة ماسة للسير قُدُماً . فالعنف وعدم الاستقرار في المنطقة يهددان الأمن والازدهار لجميع شعوبنا. وأعتقد أننا بعملنا معاً يمكننا أن نساعد في بزوغ فجر عهد جديد أكثر إيجابية.

وتقوم أوروبا، في نطاق هذا الجهد، بدور مركزي. ونحن ممتنون لقيادتكم في عملية اللجنة الرباعية. وتسهم عملية الأورومتوسطية ذاتها في هذا التعاون من خلال مساعدة الدول على العمل بطرق عملية نحو تحقيق الأهداف المشتركة. ومعاً، لنتابع الضغط من اجل تحقيق السلام والتقدّم.

أصدقائي،

هناك علاقات عميقة تاريخية تربط بين شعوبنا. فمنطقتنا شهدت مولد تاريخنا المشترك. وعلى مدى الآف السنين، اجتازت البضائع والأفكار البحر الذي يفصل بيننا. وحقيقة الأمر أن ما يربط بيننا يزيد كثيراً عمّا يفرّق بيننا. ومعاً، نستطيع أن نوسّع تلك الأرضية المشتركة بيننا ونعزّزها.

إن عبارة البحر الأبيض المتوسط بالعربية تثير في الذاكرة صورة الأمواج البيضاء في هذا الممر المائي العظيم- وتذكّر بموقع البحر المركزي في تاريخ شعوبنا. وفي اللغات الأوروبية أيضاً، سمّي البحر كذلك متوسطاً لموقعه الوسط في حياة المنطقة.

ويقف البحر الأبيض المتوسط اليوم أيضاً في المركز: أرض وسطية مشتركة لأوروبا وجيرانها الجنوبيين، كي يجتمعوا معاً، وينطلقوا قُدُماً. لنجتمع معاً في تلك البقعة في الوسط، ونحقق وعود اليوم ونحوّلها إلى واقع لجميع شعوبنا. ولنعمل على إيجاد السلام والازدهار اللذين يحتاجهما مواطنونا. ولنعمل معاً، بشراكتنا، على تحقيق العدالة، والتفاهم - ونسعى إلى رؤية عهد جديد ملؤه الأمل.

وأشكركم جزيل الشكر.