خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي

٢٦ كانون ثاني ٢٠٠٣

بسم الله الرحمن الرحيم

اشكركم يا سعادة البروفسور شواب وأعبر عن غبطتي للانضمام إليكم ثانية، إذ أنني والملكة رانيا نقدر جداً اشتراكنا في هذا الحدث الاستثنائي، ومن دواعي سروري الخاص أن تصبح جلالة الملكة رانيا اعتباراً من بداية هذا العام عضواً في مجلس أمناء المنتدى، دعوني أقول لكم أنها ستؤدي دورها الجديد هذا كما تؤدي أعمالها كافة، بقدرة هائلة ونفاذ بصيرة جعلها تعبر عن آمال وقيم الملايين من الأردنيين والعرب.

سعادة البروفسور،

نشارك في هذا المنتدى للسنة الثالثة على التوالي والذي نعتبره أكثر من مجرد مؤتمر، فهو يوفر فرصة للاجتماع بأصدقاء قدامى وجدد، أصدقاء مهتمون فعلاً في تجسير الفجوات بين شعوب العالم. وفي هذا العام، سيتيح لنا اجتماعنا هذا أن نفعّل شراكتنا العظيمة هذه، وأن نواجه أكثر القضايا خطورة في عالمنا الراهن: قضية الثقة.

لقد فتح القرن الحادي والعشرون آفاق وعقول البلايين من أبناء العالم على فرص حياة أفضل - الحرية، والازدهار والأمل. و بدأت الشعوب تطالب بقيادات تحقق لهم تلك المطالب. في الأعمال التجارية وفي الحكومة في الجوار وفي البلدان المختلفة، في كل ثقافة في العالم، يريد الناس قيادات تصغي لمطالبهم، قيادات تخدمهم، قيادات تنجز ما يطلب منها. باختصار، يريد الناس التأكد من أن أولئك الذين وضعوا مستقبلهم بين أيديهم، يعملون من أجلهم بصدق.

اليوم، تتجه عيون العالم على منطقة الشرق الأوسط. ومرة ثانية، تصبح مسألة الثقة هي القضية الأبرز، الثقة بالكلمات وبالنوايا وبالالتزامات. يطلب قادة العالم من شعوب منطقتي أن يثقوا في أحكامهم وبنواياهم الحسنة. شعوب العالم كلها تجادل حول من توليه ثقتها، وإلى أي مدى. وليس من المبالغة في شيء القول بأن حياة الملايين تتوقف على هذا.

لكن، وفي أثناء تركيز اهتمامنا نحو اتجاه معين، يكمن الموضوع الاساسي في مكان آخر. منذ منتصف القرن العشرين، وحالياً، وفي الحقبة الجديدة، جلب الصراع العربي الإسرائيلي عدم الاستقرار والمخاطر، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في أرجاء العالم كافه. إذ أنه بعد النجاحات التي أحرزت حول موائد المفاوضات - وقد تحققت نجاحات حقيقية، لكن يبقى الواقع قائماً: دوامة عنف قاتلة. فقد أعاقت سنوات من العداوات مسيرة التنمية الإقليمية. وبات الملايين يعتقدون أن الغرب القوي غير عابئ بما يحدث، أو ربما أسوأ من ذلك .. اليأس والكراهية والفرقة ساهمت في تمكين المتطرفين من تجنيد أشخاص في حملات الإرهاب العالمية.

بهذه الأساليب وأكثر منها، التهم النزاع العربي الإسرائيلي اللاذع صفحات من التاريخ. وما نجا منه ليس إلا سجل من الإخفاقات ، الأخلاقية والسياسية. آن الأوان لنفتح صفحة جديدة ونكتب مستقبلا جديدا.

اسمحوا لنا أن نقول ببساطة. نحن، المؤمنون بالسلام، يجب أن ننجح الآن. ليس فقط من أجل أولئك الذين يعانون من دوامة الألم والعنف التي لا تنتهي ، ولكن من أجل العالم الذي نحيا فيه، عالم غير مقسم، عالم يجب أن يحقق السلام والعدالة إذا ما قدر له أن يكون منفتحاً وحرّاً .

أما استعادة الثقة فقد يبدو تحدياً يتسم تحقيقه بالجرأة، لكن الجرأة الدبلوماسية هي تحديداً ما تتطلبه هذه الأزمة الراهنة. فالطريق الواضح نحو سلام مستقر موجود حالياً، مقروناً بقيادة واضحة وملتزمة في واشنطن، فإن الأغلبية الشاسعة من الفلسطينيين والإسرائيليين ستختار التعايش والسلام.

سلام مثل هذا، يجب أن يحقق في أدنى حدوده، قيام دولة فلسطينية قابلة للاستمرار ، قادرة على توفير الأرض وفرص العمل لثلاثة ملايين فلسطيني. يجب أن يقدم السلام أيضاً التزاماً بإعادة بناء بنيتهم التحتية الممزقة وأن يوفر الأمن للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. عندها فقط سيحرم المتطرفون من الجانبين، من الدعم الذي يغذي جذوة العنف.

ما من مكان يشكل إنهاء هذا النزاع فيه أهمية بالغة كالمنطقة ذاتها. فالشرق الأوسط بحاجة ماسة للسلام والتنمية والحداثة. أظهر تقرير حديث للأمم المتحدة، أن العشرين عاماً الماضية قد شهدت، تقلصاً في مستوى دخل الفرد في العالم العربي ، ومما لا شك فيه أنه بات الآن في مستوى أعلى قليلاً منه في شبه الصحراء الأفريقية. واحد من كل خمسة من العرب يعيش بمستوى أقل من دولارين يومياً. خمسة عشرة بالمائة من القوى العاملة غير عاملة. الإنتاج في انحدار ، البحث والتطوير ضعيفان أو غير موجودين ، والعلوم والتقنية في حالة سكون.

تحتاج منطقتنا إلى توظيف طاقتها في التغيير، وليس في النزاع. والشعوب العربية فتيّة يافعة. وستكون في العقود القليلة القادمة الأغلبية الساحقة منها قد تربت وتعلمت في عالم يكون المعيار السائد فيه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان واقتصاديات السوق. وعندها.. لن تقبل شعوبنا بتحقيق ما هو أقل من هذا.

تتطلب الاستجابة لمثل هذه التوقعات تغييراً هيكلياً. يجب أن تحقق قدرات الاقتصاديات العربية نمواً متزايداً إذا ما شاءت أن تستوعب القوى العاملة المتزايدة. النمو كذلك ضروري ليحقق الأهداف الاجتماعية الهامة - الحد من الفقر، وتحسين نوعية الحياة، وتطوير الرعاية الصحية، وأكثر منها.. ولعل الأكثر أهمية، هو الحاجة لإعادة بناء الثقة - وهي الركيزة اللازمة لمجتمع مدني منفتح، وحديث ومتفاعل.

هل يمكننا تحقيق هذا؟ أعتقد ذلك. جذور النجاح تمتد عميقاً في ثقافتنا. يتردد حالياً الكثير حول عصر الإسلام الذهبي، لكن لا يعرف سوى القليل حول كيف تحقق ذلك . في الواقع، يعود الفضل في العصر الذهبي ذاك إلى علماء ومفكرين مسلمين ظهروا في القرن التاسع، في المراحل الأولى من التاريخ الإسلامي. وكانوا الرواد في تقاليد عقلانية ومتحررة، تقاليد دعمت التنمية الاجتماعية وسبقت زمانها. شهدت تلك الفترة معالم هامة في العلوم، والفلسفة والطب. كانت تلك حقبة من التسامح والاحترام، عمل فيها العلماء المسلمون والمسيحيون واليهود معاً في الدواوين الملكية.

وفي القرن الرابع عشر فقط ظهر نوع جديد من الحكم الديني المتشدد، رجح القضاء والقدر والوحي على المنطق والإرادة الحرة، وأغلق أبواب الحوار والاكتشاف. ينسب العديد من المؤرخين إحباط القيم الديمقراطية في العالم الإسلامي إلى تلك الفترة، ويؤكدون أن الدول الإسلامية بدأت ركودها منذ تلك الحقبة - في الوقت الذي بدأ العالم فيه يستفيق على أفكار مستنيرة، أفكار أرست دعائم المجتمع المدني الحديث.

وبعد قرون، لا زال العالم العربي يعاني من الطريق الذي سلكناه في ذلك الحين. لكن التقاليد الإسلامية القديمة والإيجابية توفر مساراً آخر وهي مصدر للقوة والمرونة..لإيجاد مجتمعات مبتكرة غنية بالمعرفة وتعزيز الفرص.. مجتمعات تمد يد العون للمقموعين ، تحترم الرجال والنساء على حد سواء، وتعزز ركائز القبول والتسامح.

اليوم، نواجه تحدياً ثلاثي الأبعاد: دعم الأغلبية الإسلامية المسالمة والمعتدلة، تجفيف موارد الحركات المتطرفة، ومواجهة المظالم التي تشجعها على التطرف . من الواضح أن سلاماً عربياً إسرائيلياً دائم هو مطلب أساسي، والمطلوب أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. يجب أن نمنح أملاً حقيقياً للعقول الشابة في عصرنا الراهن، للرجالً والنساء الذين يسعون للحرية ويستحقون الكرامة، والفرص، والأهم من ذلك منحهم دورا ذا معنى.

لقد أدركنا في الأردن أن الانتظار حتى انتهاء نزاع دائر منذ أكثر من خمسين عاماً قبل الولوج في عملية من الإصلاح السياسي والاقتصادي سيعرضنا للمزيد من المخاطر. إن شعارنا هو "الأردن أولاً". أي يجب أن يحتل بلدنا الاولوية الأولى ، ويجب أن يكون أول من يعمل من أجل السلام والازدهار، دون انتظار تحرك الآخرين ..

نتيجة لهذا، بدأنا عملية من الإصلاح التدريجي المستمر - تؤدي إلى تحوّل في الحياة الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية. وكنا قد أدركنا قبلها أنه كي يدوم الإصلاح، لا بد من ارساء الديمقراطية. اليوم، بات تقدم الأردن نحو الديمقراطية والتعددية أمر لا رجعة عنه، ونحن ملتزمون بذلك . سنعقد انتخاباتنا النيابية الرابعة - منذ 1989 - في الربيع القادم.

إننا نضمن لمواطنينا من خلال القانون والمؤسسات المستقلة، حرية التعبير، والقول، والفكر - بما في ذلك صحافة حرّة ، مسؤولة في توجهاتها واعية لدورها. وكي يستمر الأردن في تبوأ مركز قيادي في مجال حقوق الإنسان، قمنا بإنشاء مركز مستقل لحقوق الإنسان في الأردن، والذي يضطلع بمهام تشجيع وحماية الحقوق المدنية والإنسانية.

وقطعنا شوطاً كبيراً في تحرير اقتصادنا، وفي إتاحة المساحة الكافية للقطاع الخاص ليصبح مساهماً كاملاً فيه. والأهم من ذلك ، أننا استثمرنا بكثافة في تطوير أعظم ثرواتنا الوطنية - شعبنا، إذ أنه في عالم الاقتصاد المعرفي، تكون الموارد البشرية هي الميزة الحقيقية التي ستحافظ على استمرارية توجهنا الاقتصادي. وستصبح هذه القدرات في تقديرنا، المصدر الذي يستقي الأردن منه مستقبله..والأساس لشرق أوسط جديد.

أصدقائي

الديمقراطية بالضرورة منتج محلي، يمكن استلهامها من أفكار ومبادئ عالمية، لكن ترسيخ مؤسساتها ومبادئها يجب أن يكون محلياً. ولتحقيق هذا، علينا نذر أنفسنا، فرادى وجماعات، لبناء مستقبل أفضل لشعوبنا.

لكن العملية تبدأ بالثقة. والثقة تبدأ بالاحترام. أبناء المنطقة كافة، فلسطينيين وعراقيين وإسرائيليين وغيرهم يستحقون حقوقهم غير القابلة للتصرف في الحياة الكريمة والحرية والسعي لتحقيق سعادتهم. عندها فقط، يمكن للمجتمع الدولي أن يتوقع ظهور مجتمعات مدنية ديمقراطية حديثة في الشرق الأوسط. وعندها فقط، سنتمكن من تحقيق تنمية بشرية مستدامة في المنطقة. وعندها فقط.. سنتمكن من مدّ جسور الثقة نحو مستقبل واعد.

أشكركم.. جزيل الشكر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،