خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي

٢٥ كانون ثاني ٢٠١٣

بسم الله الرحمن الرحيم

أشكرك بروفسور شواب، وأشكركم جميعاً. إنه لمن دواعي سروري أن أشارككم في هذا الاجتماع مجددا. صديقي كلاوس، لقد أثبتت التطورات العالمية المتتابعة صحة الرؤى والأفكار التي ناديتم بها، وأسست عليها هذا المنتدى، الذي لم يكن ليقتصر على النقاش وحسب، بل شكل قاعدة تنبثق منها الأفعال.

أصدقائي،

لقد سادت في السنوات الثلاث الأخيرة حالات من الاضطراب والتحديات امتدت إلى كل بقاع الأرض، ولم تستثني الشرق الأوسط. وفي كل قارة وُضعت الأنظمة السياسية والاقتصادية تحت المجهر، وها هي الشعوب تبحث عن إجابات حان وقت تقديمها، فليس هناك ما هو أكثر خطورة وتعطيلاً من نمط التفكير القائم على أساس "لننتظر ونرى" ماذا سيحدث.

واليوم نسمع البعض يقول "لننتظر ونرى" ماذا سيحل بتسوية حل الدولتين للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهم يبررون هذا الموقف بالقول بأن حالة من اللايقين تسود هذه المرحلة وأن هنالك أولويات أخرى، "لذا دعونا ننتظر وحسب". لكن التحديات غير المسبوقة التي يواجهها الاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي اليوم، لا تحتمل مثل هذا الانتظار.

كما نسمع البعض يقول "لننتظر ونرى" مآلات الربيع العربي، ويقولون أيضا إن هناك الكثير من الغموض يكتنف المشهد الحالي، أو أنهم يخشون أن يعجزوا عن الإمساك بزمام الأمور. لكنه ليس بالإمكان اليوم البقاء خارج عملية التغيير، حيث ينشد المواطنون تحقيق أهدافهم، ما يعني الانتقال سويا إلى ديناميكية جديدة وعدم البقاء رهينة للوضع الحالي، ومن حالة الاحتجاج إلى المساهمة الفعلية والإحساس بأن لهم مساهمة حقيقية في صياغة المستقبل، وكذلك الانتقال من خدمة المصلحة الذاتية إلى تقديم المصلحة العامة دون سواها.

وفي ذات الوقت، نسمع البعض في الغرب ينظر إلى التحولات في العالم العربي، ويقول "دعونا ننتظر"، حتى تتضح الرؤية، و"دعونا نرى فيما إذا كانت الديمقراطية ستأخذ مجراها". لكن علينا أن نتذكر أن التعددية والتنوع واحترام الآخر يتطلبون الدعم والمبادرة، وإذا ما ترك من يسعون بجد لتحقيق الصواب وحدهم بلا سند، فقد يتحول استبداد الأمس ببساطة إلى استبداد أكثر سوءا. وهناك حاجة للانخراط بإرادة وعزيمة من أجل تعزيز مبادئ المساواة وسيادة القانون، واحترام الحقوق الثابتة لجميع الشعوب.

وأخيراً، نسمع البعض في مجتمع الأعمال العالمي يقول "ونحن سوف ننتظر ونرى". لكن النجاح في منطقة الشرق الأوسط لا يستطيع الانتظار، والشركات والمستثمرون الذين يبادرون الآن سوف تكون لهم الصدارة، وسيبعثون برسالة قوية إلى قادة المستقبل والمستفيدين من خدماتهم مفادها: "نحن معكم، على أرض الواقع، نبني المستقبل معا".

أصدقائي،

سيبقى الأردن ملاذا آمنا في وسط هذا الإقليم لأنه يرفض التعامل مع الأمور من مبدأ "لننتظر ونرى"، بل يبادر كعادته لمواجه التحديات بلا تردد. وقد شهدنا هذا الأسبوع انتخابات برلمانية تاريخية في الأردن، إذ صوت الناخبون لـ 150 عضوا في مجلس النواب، من بين عدد غير مسبوق من المرشحين والمرشحات على حد سواء.

وتعكس هذه الانتخابات حقيقة أساسية مفادها أنه لا بد من تمكين كل مواطن بحيث يكون شريكاً حقيقياً إذا ما أردنا لأُمتنا توظيف كامل قدراتها. لقد وفر الربيع العربي للأردن فرصة لتجديد زخم التغيير، حيث أننا نسعى إلى مسار إصلاحي قائم على سيادة القانون. ومن شأن التغيير الشامل والمنشود، والقائم على التوافق، تعزيز التمثيل، والفصل بين السلطات وحماية الحريات المدنية، خاصة حقوق المرأة والأقليات.

وستنطلق، تباعاً، المشاورات مع مجلس النواب خلال الأيام القليلة المقبلة لتكليف رئيس وزراء جديد. وهناك قرارات في غاية الأهمية مرتبطة بالسياسات على جدول أعمال صانعي القرار، أبرزها إيجاد فرص العمل، وقضايا الطاقة، والخدمات، وتحقيق المزيد من الإصلاح السياسي أيضاً. وهنا أود التأكيد وبقوة أن المواطنين الأردنيين هم القادة بكل ما لهذا الوصف من معنى. فمسؤوليتهم المدنية المجتمعية لم تنته يوم الاقتراع بإدلائهم بأصواتهم، بل إن انخراطهم المستمر في غاية الأهمية، من أجل الاستمرار في مساءلة مجلس النواب والحكومة، وتعزيز ثقافة الأحزاب السياسية في المملكة، ولضمان إبقاء زخم الإصلاح السياسي والاقتصادي.

وفي المجال الاقتصادي، لدينا نقاط قوة هامة يمكننا البناء عليها، منها موقع الأردن المركزي في المنطقة، حيث تتوفر إمكانية الوصول إلى أكثر من مليار مستهلك في جميع أنحاء العالم. ولدينا قوى عاملة متنوعة ومبدعة، وضمانات تم تعزيزها ضد الفساد، وسياسات وتشريعات استثمارية جاذبة.

ومنذ أكثر من عقد من الزمان، والإصلاحات الاقتصادية تسير جنباً إلى جنب مع إدارة مسؤولة وحصيفة للاقتصاد الكلي، لتساهم في تشجيع القطاعات الصناعية الجديدة والمتنامية. فعلى سبيل المثال، نَمَت صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، خلال قرابة العشرة سنوات، من مشاريع مبتدئة وناشئة إلى قطاع ينتج ويدير 75 بالمئة من مجمل المحتوى العربي على الإنترنت. وفي جميع القطاعات، كان هناك زيادة قدرها أربعة أضعاف في الصادرات منذ عام 2001، وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من الضعف. ونحن منفتحون على احتضان الأعمال المبدعة والمبادرات الريادية.

وفي ضوء كل هذا نتساءل: هل نحن راضون عن ما تم إحرازه من تقدم؟ الجواب: لا، ذلك أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد أضرت بنا جميعا. وفي الأردن، يعاني شبابنا الذي يشكل الغالبية العظمى من السكان من مستويات لا يمكن السكوت عنها من البطالة. وقد خسرنا أسواقا بسبب الأزمة في سوريا، فيما تضع أزمة الطاقة عبئاً ثقيلا على الخزينة. لكن التحديات التي تواجه الأردن لم تزدنا إلا تصميما، ونحن ماضون في سلسة من الإجراءات والقرارات الضرورية من أجل مستقبل آمن ومزدهر.

واسمحوا لي أن أضيف أنه برغم الصعوبات التي تواجه الأردنيين، وبالرغم من محدودية مواردنا الطبيعية، فإن الأردن يستضيف ما يزيد على ثلاثمائة ألف لاجئ سوري. وهنا، أجدد دعوتي للعالم لرفع مستوى استجابته للأزمة السورية وتداعياتها، حيث يواجه اللاجئون فصل الشتاء القارص؛ وهناك حاجة ماسة إلى مزيد من الدعم الدولي، الذي يجب عليه أن يوحد جهوده بشكل حاسم لوضع حد لإراقة الدماء. وما نحن بحاجة إليه هو خطة انتقالية حقيقية وشاملة تضمن وحدة سوريا شعبا وأرضا... وتضمن لكل السوريين، وأكرر هنا كل السوريين، دورا ليكونوا شركاء في مستقبل بلادهم. وأي خيار عكس ذلك، إنما هو دعوة للتشرذم وتنافس متطرف على السلطة والاستئثار بها، والمزيد من الصراع وعدم الاستقرار، وسيكون له عواقب كارثية على المنطقة والعالم. لذا، دعونا لا "ننتظر ونرى"، فقد حان وقت العمل.


أصدقائي،

العالم بأسره يراقب انتقال المنطقة العربية إلى فجر جديد. ولكن يبقى هناك تقصير في غاية الأهمية لا بد من التعامل معه، آلا وهو استمرار حرمان الفلسطينيين من حقهم في إقامة دولتهم المستقلة. وقد تحمل الأردن لسنوات طويلة مخاطر التمسك بخيار السلام، وذلك لقناعتنا بأن مخاطر استمرار الصراع هي أسوأ من ذلك بكثير.

كما أن إحراز الأمن على المدى الطويل في منطقة الشرق الأوسط يتطلب إنهاء الصراع، وبغض النظر عن نتائج التصويت في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، يجب أن يتصدر السلام والأمن الرغبة في وجدان كل الإسرائيليين. ولنتذكر هنا أن مبادرة السلام العربية مازالت توفر المسار الصحيح لتحقيق ذلك، والذي يقوم على أساس حل الدولتين وإعطاء كلا الجانبين ما يصبون إليه، بحيث نصل إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة، وإسرائيل آمنة تتمتع بالسلام مع جميع جيرانها، وعلاقات طبيعية مع جميع الدول العربية.

لقد حمل الربيع العربي صرخة تنادي بالكرامة الإنسانية لكل البشر وليس لبعضهم. ولا يوجد وقت أمام إسرائيل للاستمرار في لعبة الانتظار والتأجيل. لقد دعوت المجتمع الدولي للانضمام إلى الأردن في مساعيه لكسر الجمود، والضغط من أجل مفاوضات نشطة تنهي هذا الصراع إلى الأبد. ويجب علينا أن نعمل لاستثمار هذه الفرصة قبل زوالها.


أصدقائي،

في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يجمعنا اليوم، يتمتع قادة العالم بقدرة فريدة لإحداث الفرق وتجاوز الحدود التي تفرق بين الشعوب، وتداول الخيارات الصعبة، ومساعدة الجيل الجديد كي يعيش واقعا تسوده العدالة العالمية، وتتوفر فيه الفرص.

ولمواصلة هذا العمل المهم والبناء عليه، أدعوكم جميعا وأرحب بكم لاجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي سيعقد في أيار المقبل في البحر الميت. إن التحديات التي تواجهها المنطقة قد ضاعفت من فرص بناء شراكات جديدة قادرة على توليد فرص العمل، وتعزيز روح الريادة، وبناء البنية التحتية. وسوف تشهدون في المنتدى الاقتصادي العالمي في الأردن ترحيبا بذلك المستقبل. وعليه، فإنني أدعوكم إلى عدم تبني نهج "لننتظر ونرى"، وأتطلع قدما إلى لقائكم جميعا في الأردن قريبا.


 وشكرا لكم.