خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة الثالثة لمجلس الأمة الثالث عشر

١ تشرين ثاني ١٩٩٩

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي العربي الهاشمي الأمين

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

فباسم الله وعلى بركة الله نفتتح الدورة الثالثة لمجلس الأمة الثالث عشر، وهي الدورة العادية الأولى في عهدنا، الذي سنعمل فيه بعزم وإرادة قوية، من أجل رفعة الأردن وازدهاره، والدفاع عن قضايا أمته ومستقبل أجيالها، وذلك وفاء للرسالة العظيمة، التي تحدرت إلينا من الآباء والأجداد، بعد أن قدموا في سبيلها التضحيات الجسام، ووفاء للأهداف النبيلة التي سعى الحسين العظيم رحمه الله إلى ترسيخها، فكان هذا البناء الشامخ الذي ورثناه، والاحترام الكبير الذي نلمسه حيثما نذهب، وقد استقر في الضمير والوجدان منذ اللحظة الأولى، التي أكرمني الله فيها، بشرف أمانة المسؤولية الأولى في الأردن العزيز، أني نذرت نفسي لخدمة الشعب الأردني الوفي، العربي الوجه والضمير والرسالة والذي أعتز بالإنتماء إليه، وأفاخر الدنيا بأصالته، وقدرته على مواجهة التحديات والصعاب، والحرص على النهوض بالواجب، دفاعا عن قضايا أمته، وإسهاما في صياغة مستقبلها، الذي يليق بتاريخها، ورسالتها الإنسانية والحضارية العظيمة.

إن اعتزازي بمجلسكم الكريم هذا، إعتزاز بلا حدود، فهو رمز لإرادة الشعب الأردني الحرة، وهو معقل مسيرتنا الديمقراطية، وحماها المصون، وهو منارة الحرية والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وإيمانا منا برسالة هذا المجلس المقدسة، وما ينهض به من مسؤولية وطنية جليلة، فستعمل حكومتي على التعاون والتشاور مع مجلسكم الكريم، في جميع شؤون الوطن وقضاياه، تجسيدا لما نص عليه الدستور، وضمن مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، وإقامة التوازن فيما بينها، وتحديد المسؤوليات والواجبات، المنوطة بكل واحدة منها.

وانطلاقا من هذه القاعدة الدستورية الواضحة، ستعمل حكومتي أيضا، على دعم استقلال السلطة القضائية، من خلال وضع التشريعات التي تعزز ذلك الإستقلال وتصونه، وتوفير الحوافز والإمكانيات التي تعين القضاء على أداء مهمته الجليلة، وتحقيق العدل بين الناس، وسيادة القانون على الجميع، فالأردنيون أمام القانون سواء والعدل أساس الحكم، وهو الضمانة للحفاظ على قيم التسامح والترابط والتكامل والوحدة الوطنية.

وعلى هذا الأساس فنحن في الأردن نؤمن أننا أسرة واحدة يتساوى أفرادها في جميع الحقوق والواجبات بغض النظر عن الأصول والمنابت، ونحن نؤمن أيضا أن الإنتماء الحقيقي الصادق للأردن وترجمة هذا الإنتماء إلى عمل وأداء للواجبات، هو مقياس المواطنة الصالحة.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

لقد كانت للحروب والصراعات التي مرت بها هذه المنطقة، آثارها السلبية ليس على أوضاعنا الإقتصادية وحسب، وإنما على أوضاع المنطقة بعامة، فقد توقف الدعم العربي الذي كنا نتلقاه، وأغلقت في وجه صادراتنا بعض الأسواق، وتناقص عدد أبنائنا العاملين في الخارج، بالإضافة إلى أمور عديدة أخرى، أدت إلى زيادة حجم البطالة، وارتفاع نسبة الفقر، وفي ظل مديونية تثقل كاهل اقتصادنا الوطني.

لقد مر الأردن بمثل هذه الظروف عبر مسيرته الخيرة، وربما بأصعب منها، ولكنه بفضل قيادته الحكيمة، وبجهود أبنائه المخلصين وعزائمهم الماضية، كان دائما يجتاز كل الشدائد والمحن، ويحقق الإنجازات العظيمة بأقل الموارد والإمكانيات.

وبناء على ذلك، فقد كان موضوع التنمية الإقتصادية وإعادة هيكلة اقتصادنا الوطني، وتفعيل دور القطاع الخاص، وإيجاد المناخ الاستثماري الجاذب، وتوفير البنى التحتية، ومعالجة موضوع المديونية، على رأس أولوياتنا وأهدافنا الوطنية.

إن الدرب طويل ولكننا بالعمل الجاد الصبور الهادف قادرون على اختصاره، وقد بدأ اقتصادنا والحمد لله يتعافى تدريجيا، ونحن في هذا الإطار نقدر للأشقاء والأصدقاء تعاونهم معنا، ودعمهم لنا في جهودنا لمعالجة أوضاعنا الإقتصادية.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

إن مصادرنا من المياه شحيحة، وقد أدى انحباس الأمطار في الموسم الماضي، إلى زيادة حجم المشكلة، وبالرغم من ذلك فقد تعاملت حكومتي مع هذا الوضع بكفاءة يقدرها لها الجميع، وقد مر الصيف والحمد لله، دون أن يحس المواطن بوجود مشكلة حادة، ولا بد لنا من معالجة هذا الوضع بشكل جذري، من خلال البحث عن مصادر مائية جديدة، وإنجاز مشروع جلب مياه الديسة، ومعالجة المياه المالحة ذات المصادر الجوفية القريبة، وترشيد الاستهلاك. ولا بد هنا من كلمة شكر للأشقاء في ليبيا والإمارات العربية المتحدة، الذين أبدوا كل الإستعداد لمساعدتنا في هذا المجال.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

إن الإدارة الأردنية معروفة بكفاءتها، إلا أنها قد بدأت في السنوات الأخيرة تعاني من بعض المظاهر السلبية، كالترهل والتسيب والشللية، واستغلال المنصب العام لأغراض شخصية، والتطاول على المال العام في بعض الأحيان، ولذلك ستواصل حكومتي ما بدأته من إجراءات، لوضع حد لكل هذه الظواهر السلبية البغيضة، ولن تتوانى عن محاسبة كل من يثبت تجاوزه على الوظيفة العامة، أو استغلالها، أو محاولة الإثراء غير المشروع، أو التورط بأي قضية فساد، مهما كان نوعها أو حجمها، وسيكون قضاؤنا العادل النزيه، الحكم الفيصل في كل قضية من هذه القضايا.

وستواصل حكومتي خطواتها لإعادة هيكلة الإدارة وتحديثها والقضاء على البيروقراطية، وتحديث الإجراءات وتبسيطها، والعمل بأسلوب مؤسسي، تسوده روح الفريق الواحد، وفتح المجال أمام الكفاءات، والقيادات الإدارية المنتمية، القادرة على الإبداع والعطاء المتميز.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

إن توفير الحياة الكريمة وتقديم الخدمات العامة للمواطن الأردني، في البادية والريف والمخيم والمدينة، مسؤولية وطنية وواجب مقدس، تسعى الحكومة للنهوض به، وستواصل برامجها لتوسيع الخدمات المقدمة للمواطنين، في سائر المجالات التربوية والاجتماعية والصحية، وتطوير مستواها، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن قطاع المرأة والطفولة بحاجة إلى المزيد من الرعاية والاهتمام، من خلال وضع البرامج والتشريعات التي تصون حقوق هذين القطاعين، وترتقي بمستوى الرعاية المقدمة إليهما. وستولي حكومتي عناية خاصة لتوسيع مظلة التأمين الصحي، وصولا إلى التأمين الصحي الشامل، والإرتقاء بمستوى ونوعية التعليم، ومعالجة قضايا الإسكان والنقل والرعاية الإجتماعية، والحفاظ على قطاع البيئة بكل أبعاده.

إن الأردن غني بحمد الله، بإمكانياته السياحية، من حيث الموقع والمناخ والمواقع الأثرية والدينية، وعلى ذلك، ستعمل حكومتي على استغلال هذه الإمكانيات السياحية وتطويرها، على أفضل صورة، وسنعمل على توسيع دور القطاع الخاص، في مجالات الاستثمار، وتطوير التشريعات والقوانين، واستقطاب رؤوس الأموال والإستثمارات السياحية، للإرتقاء بمستوى هذا القطاع، الذي يمكن أن يشكل رافدا رئيسيا لخزينة الدولة، ويسهم في إيجاد فرص عمل جديدة لأبناء الوطن.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

لقد كانت مسيرتنا الديمقراطية وستظل، خيارنا الوطني الذي لا رجعة عنه، ومجلسكم الكريم هذا عنوانها الرئيسي. وقد شهد الوطن قبل عدة أشهر إحدى أروع صور الممارسات الديمقراطية، حين قامت حكومتي بإجراء الانتخابات للمجالس البلدية، بمنتهى النزاهة والحياد والدقة والتنظيم، وستعمل حكومتي على ترسيخ قواعد هذه المسيرة الديمقراطية وفتح الآفاق أمامها، من خلال العمل على تعميق الوعي الديمقراطي بين الناس، وإرساء قواعد الحوار بين مؤسسات المجتمع المدني، واحترام الرأي الآخر، وصون الحريات العامة، والتعددية السياسية، في إطار من الإلتزام بروح الدستور، واحترام القوانين، والانتماء لثرى هذا الوطن العزيز، منطلقين في ذلك من قناعتنا، بأننا جميعا مؤسسات وأفرادا، شركاء في تحمل مسؤولياتنا الوطنية، وشركاء في صياغة حاضر هذا الوطن ومستقبله.

وعلى ذلك، فليس من حق أحد أو جهة أيا كانت، أن تدعي احتكار الحقيقة، أو احتكار الحرص على المصلحة الوطنية العليا، أو استغلال مناخ الحرية والديمقراطية والتسامح، للتطاول على قوانين هذا البلد وأعرافه وقيمه النبيلة، أو الإساءة إلى صورته وسمعته المشرقة، أو التطاول على رموزه ومؤسساته، أوالانتقاص من تضحياته وإنجازاته، وإذا كنا لا نسمح لأنفسنا بالتدخل في شؤون الآخرين، فإننا لن نسمح لأحد أيا كان أن يتدخل في شؤوننا الداخلية.

أما قواتنا المسلحة الباسلة، وأجهزتنا الأمنية، فهي درع الوطن ورمز كبريائه، وإرادته الحرة، وهي العين الساهرة على أمن المواطنين والحفاظ على حياتهم وكرامتهم، وهي من قبل ومن بعد، موضع اعتزازنا وتقديرنا، وستعمل حكومتي على إيلاء قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية كل العناية والاهتمام، من خلال العمل على تحديثها وتطويرها، وتزويدها بكل ما يمكنها من النهوض بمسؤولياتها الوطنية وواجبها المقدس.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

لقد كان الأردن وسيظل بعون الله، وارث رسالة الثورة العربية الكبرى، وأهدافها وغاياتها النبيلة، في الحرية والوحدة والحياة الأفضل، وسيظل كما كان على الدوام، عربي الانتماء والموقف والرسالة. وانطلاقا من هذه الرؤية الواضحة، سيظل العمق العربي للأردن، هو الأساس في كل علاقاته، ولن تتقدم أي علاقة على علاقة الأردن بأشقائه العرب.

وعلى هذا الأساس سيواصل الأردن جهوده المخلصة، في تنقية الأجواء العربية، وتجاوز ما بين الأشقاء من خلافات آنية عابرة، وسيستمر في دعم مؤسسات العمل العربي المشترك، من أجل توحيد جهود الأمة وموقفها، تجاه قضاياها المصيرية، وحشد طاقاتها في إطار من التعاون والتكامل، من أجل مستقبل أفضل لأجيالها القادمة. وستكون علاقاتنا مع كل قطر عربي شقيق، قائمة على المودة والأخوة والاحترام والثقة والتعاون، وعدم التدخل في شؤون الآخرين.

وستواصل حكومتي جهودها من أجل دفع المسيرة السلمية، وتمكينها من تحقيق التقدم المنشود على جميع المسارات، وستستمر في دعم الأشقاء الفلسطينيين ومساندتهم، حتى يتمكنوا من استعادة حقوقهم، وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، ذلك أننا نؤمن أن القضية الفلسطينية هي لب الصراع في المنطقة، ولن يتحقق السلام المنشود، دون تسوية هذه القضية تسوية عادلة.

أما الأشقاء في سوريا ولبنان، فلن نتوانى عن تقديم الدعم لهم وإسنادهم من أجل استعادة حقوقهم وأراضيهم المحتلة، حتى يتحقق السلام الشامل والدائم والعادل، الذي تريده شعوب المنطقة.

وأما الأشقاء في العراق، والسودان فإننا نشعر بمعاناتهم تحت وطأة الحصار المفروض عليهم، وندعو المجتمع الدولي، إلى القيام بواجبه الإنساني والأخلاقي، لرفع الحصار عن هذين الشعبين، ووضع حد لهذه المعاناة، التي فاقت كل الحدود. وفي هذا المجال فإننا نؤكد على موقفنا الثابت بضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي العراقية.

حضرات الأعيان،

حضرات النواب،

إنني على يقين، لما أعرفه فيكم من تقدير صادق للمسؤولية الكبيرة التي تحملون، أنكم قادرون على تجنيد كل الطاقات للعمل والبناء والإنتاج، وقيام تعاون مثمر بناء بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالوطن بحاجة إلى جهد جميع أبنائه وجميع مؤسساته الوطنية، فلنعمل جميعا معا من أجل بناء الأردن النموذج وخدمة أمتنا العربية.

أحييكم، وأحيي كل أخ وأخت في هذا الوطن العزيز، والله معنا.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب."

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،