الكلمة الرئيسية لجلالة الملك عبدالله الثاني في فطور الدعاء الوطني
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الرئيس،
أصدقائي،
أشكركم على هذا الترحيب وعلى دعوتكم لي للمشاركة في فطور الدعاء الوطني مجددا.
أود أن أبدأ حديثي بمشاركتكم صورة ثمينة بالنسبة لي.
هناك في بلدي، شجرة تمتد على مساحة واسعة في الصحراء تعرف باسم الشجرة المباركة. كل مرة أرى هذه الشجرة البديعة من الجو، تستوقفني قسوة وجفاف الأرض التي تزدهر فيها، وأتساءل إلى أي مدى يبلغ عمق جذورها، وإلى أي مدى تمتد هذه الجذور لاستدامة الشجرة.
تمنحني هذه الصورة الأمل، لأن هذه ليست بشجرة عادية، فعمرها أكثر من ألف وأربعمئة عام، وهي الشجرة التي تفيّأ في ظلها سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، في شبابه قبل النبوة، عندما توقفت عندها قافلته. وتحت أغصانها، التقى هناك راهبا بيزنطيا تنبأ بحمله رسالة النبوة.
كان هذا أول لقاء بين الأديان، بين مسلم ومسيحي.
أما اليوم، ومع أننا لا نقف تحت الشجرة، يمنحني هذا اللقاء بين الأديان الأمل أيضا، فمثلما تبرز الشجرة المباركة بتباينها مع الصحراء القاسية، فإن إيماننا يبرز بتباينه مع ظلام عصرنا هذا.
يجمعنا فطور الدعاء الوطني معا في وقت يمزق فيه الانقسام والصراع عالمنا، فالصراع في أوكرانيا مستمر، وقد زهقت الآلاف من الأرواح وتأثرت معيشة الملايين من جميع أنحاء العالم.
وفي مشهد جيوسياسي متقلب، تطغى الخلافات على التعاون، وتقوض التهديدات الجديدة من عدم الاستقرار الجهود العالمية الحيوية للتصدي للتحديات المشتركة.
وها نحن نرى الأيدولوجيات المتطرفة تتغلغل في الدين والسياسة والإنترنت وغيرها.
أصدقائي،
بالنسبة للكثيرين، يبدو أن العالم قد ضل طريقه.
ولكن إن دل لقاؤنا هذا على شيء، فهو أنه لدينا بالفعل ما يقودنا إلى الأمام وعلى الطريق الصحيح: إيماننا.
علمتني سنوات عملي حقيقة مهمة، وهي أن جهودنا ونجاحنا لا يمكن أن يكونا محض مسألة تتعلق بالسياسة، فليست السياسة التي تثبتنا في العمل المضني لتغيير العقليات القديمة وتخطي العداوات القديمة. لا، بل نحن نتطلع إلى مستقبل أفضل ونحن نصر على فعل الصواب بسبب إيماننا.
إن الأهداف السياسية مؤقتة، أما هداية الله لنا فمستمرة على مر الزمن. يمكن للسياسة أن تميل من جانب إلى آخر، أما الإيمان، فهو راسخ.
قال تعالى في القرآن الكريم:"وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ". [آل عمران: 139]
وفي إنجيل متّى، قال المسيح عيسى، عليه السلام: "لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ." [متّى 17:20]
إن الإيمان، حتى في المستحيل، هو أعظم فعل للتصدي لليأس.
وليس هذا الإيمان الأعمى الذي يتحدث عنه المتهكمون، بل هو الإيمان الفاعل الذي يمنحنا بصيرة ثاقبة، ويمكننا من رؤية ما وراء الضعف والفشل، لنسعى دوما لنكون أفضل ما يمكن أن نكون. هذا هو جوهر الإيمان، إنها معجزة الإيمان.
ويتطلب الإيمان عملا جادا، فنحن كمسلمين نتعلم أن الشعائر وحدها لا تجعل من المرء تقيا، بل إنما الإيمان هو العمل، أي أن نساعد الضعيف، ونحترم هذه الأرض، ونمد يد العون إلى الغريب الذي يطرق أبوابنا.
أصدقائي،
في كل الأديان، لا يمكننا أن نعبد الله إلا إذا عكسنا إيماننا في شتى مناحي حياتنا.
ففي الإسلام، عبادة الله تتمثل في خدمة البشرية. فنقرأ في القرآن الكريم: "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". [البقرة: 195]
كما أن المسيحية تحث المؤمنين على خدمة الآخرين. فبعدما غسل المسيح عيسى، عليه السلام، أقدام تلاميذه، قال: "لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا." [يوحنا 13: 14-15]
ونقرأ في العهد القديم، "وليَكنْ عِندَكُمُ الغريـبُ النَّزيلُ فيما بَينكُم كالأصيلِ مِنكُم. أحِبُّوه مِثلما تُحبُّونَ أنفسَكُم." [اللاويين 19:34]
وبالفعل، فقد كان التراحم والتعاطف دون أية شروط، سمتين حاضرتين في سيرة كل الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، خاصة مع المستضعفين من المنبوذين والفقراء والمرضى والمظلومين واللاجئين.
وهذه الروح التي تقع في صلب قصة الولايات المتحدة الأمريكية كبلد بناه المهاجرون.
وهي جزء مهم من قصة الأردن، إذ تأسس بلدنا المسلم على مبادئ شمول الجميع واحترام الكرامة الإنسانية. ولطالما كنا ملاذا، فموجات اللجوء الأخيرة ليست إلا أحدث مرة استجابت بلادنا فيها لمن يطلب العون.
فقبل قرنين من الزمن، عبر المسيح عيسى، عليه السلام، نهر الأردن إلى ضفتنا الشرقية باحثا عن ملاذ آمن. ونستمر اليوم، وبكل فخر، بالمحافظة على موقع عمّاد السيد المسيح (المغطس)، الذي يعد أحد مواقع اليونسكو للتراث العالمي، وقد استقبل باباوات وأساقفة وحجاج من أتباع جميع الكنائس، كما يزوره المسلمون تعبيرا عن احترامهم ومحبتهم، وأنا واحد منهم.
أصدقائي،
هناك معنى مميز لارتباط الإيمان والسلام في الأراضي المقدسة. فمنطقتنا هي موطن لأماكن مقدسة لأكثر من نصف سكان الأرض. وما يحدث هنا قد يوحد عالمنا أو يمزقه.
وفي قلب ذلك كله تستقر مدينة القدس، وقد عاشت مجتمعاتها العريقة جنبا إلى جنب على مر التاريخ وساهمت في بناء نسيج الحضارة البشرية. والحرم القدسي الشريف/ المسجد الأقصى المبارك من أقدس الأماكن الدينية لدى المسلمين كافة، مثلما تحمل كنيسة القيامة مكانة كبيرة لدى المسيحيين حول العالم.
لكن اليوم، يتم انتهاك حرمة المدينة المقدسة بفعل السياسة.
إن القدس بالنسبة للأردن ولعائلتي الهاشمية، لم تكن أمرا سياسيا قط، فمنذ أكثر من مئة عام، حملنا أمانة الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس. وبموجب هذه الوصاية، سعينا لضمان الحقوق المشروعة لكل الطوائف، بالحفاظ على الوضع التاريخي القائم الذي يضمن استمرار أدياننا في الأرض المقدسة. واليوم، يحظى دورنا هذا بدعم القادة المسلمين، والكنائس المسيحية حول العالم، ومختلف الحكومات دوليا.
كما أن الوصاية أمر شخصي جدا بالنسبة لي. فعلى مدار أجيال، ارتبطت حياة عائلتي بمدينة القدس. جدي الأكبر، الملك المؤسس عبدالله، كان حريصا على الصلاة في المسجد الأقصى المبارك واستشهد على عتباته.
أما والدي، الذي كان أميرا آنذاك، فكان يقف بجانب جدي عند اغتياله، ونجى من الرصاص بأعجوبة. وكانت لتجربته في ذلك اليوم، إلى جانب إيمانه العميق بالله، الأثر الكبير الذي دفعه لتكريس حياته للعمل لتحقيق السلام.
وأذكر جيدا كيف سافر من مايو كلينيك إلى العاصمة واشنطن، خلال تلقيه العلاج الكيماوي في صراعه مع مرض السرطان، للدفع بجولة جديدة من مباحثات السلام. فبالنسبة له، كان السلام دوما ممكنا، ودوما الأولوية.
وخلال بداية خدمتي للأردن، قبل أكثر من 20 عاما، اتخذت من السلام قضية. وفي ذلك الوقت، كانت إمكانيات السلام ضعيفة، لكن حقيقية. وكان الطرفان يدركان أن مستقبلهم لن يكون آمنا ومشرقا بالفعل إلا إذا انتهى الصراع، وانتهى بصورة عادلة. بدأ حينها القادة بالانتباه إلى ذلك، وساهم الأصدقاء من مختلف دول العالم في تقريب وجهات النظر بين الطرفين. ورأيت حينها، وما زلت أرى، الإمكانيات الهائلة للسلام الممتد عبر الإقليم بأكمله، من ساحل الأطلسي إلى بحر العرب.
لكن تدريجيا، شهدنا دخول الصراع إلى دائرة مظلمة من التأزيم والجمود والأزمات العنيفة. وبينما كان هذا الصراع الذي لا ينتهي ينشر بذور الفرقة في عالمنا بأكمله، ويقلص الثقة في العملية السياسية لتحقيق السلام، ويغذي التطرف، كانت المصالح الأنانية والجهل المتعمد في انتشار.
قبل أكثر من عقد، أشرت إلى أننا أمام "فرصتنا الأخيرة" لـ "السعي نحو السلام في زمن الخطر". وفي ذلك الوقت، زعم بعض المتشائمين أن الاعتقاد بوجود أية فرصة لتحقيق السلام فيه تفاؤل مفرط.
واليوم، أصدقائي، أعتقد أن عنوان ذلك الكتاب لم يكن متفائلا بما فيه الكفاية، فهناك دائما فرصة للسلام.
والحقيقة هي أن مختلف شعوب الشرق الأوسط قد عاشت عبر تاريخها في وئام لفترات أطول بكثير مما أمضته في تناحر. فليس علينا إعادة اختراع العجلة للتنبه إلى ما ورد عن داوود عليه السلام، في المزامير: " تجَنَّبِ الشَّرَّ واعْمَلِ الخَيرَ، والتَمِسِ السَّلامَ واسْعَ وراءَهُ." [المزامير 34:14]
ما نحتاجه الآن ليس المزيد من العمليات السياسية، فلدينا الكثير منها. بل نحتاج لإيماننا والقدرة على التطلع إلى عالم أفضل وأكثر عدالة.
نحتاج للقدرة على رؤية إنسانيتنا المشتركة تتسامى فوق الخطاب الذي يغذي الخلافات، وتبني الثقة المتبادلة التي يحتاجها مستقبلنا بشدة. وعلينا البدء بالحوار الذي يعزز الاحترام المتبادل، مثل حديثنا اليوم.
فقد قال تعالى في القرآن الكريم: الكلمة الطيبة "كَشَجَرَةٍۢ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌۭ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَآءِ". [إبراهيم: 24]
أصدقائي،
الشجرة المباركة في صحراء الأردن أصلها ثابت أيضا، وفروعها تصل السماء، وجذورها ضاربة في عمق الأرض.
وبالنسبة لي، فإنها تجسد مثالا على إيماننا العميق الذي نتواصل من خلاله مع الله سبحانه وتعالى، فإيماننا يساعدنا على الارتقاء في علاقتنا مع الله العلي القدير. وإيماننا بالله يمنحنا القوة للصمود بثبات في وجه الرياح والتمسك بقيمنا التي تمنح لحياتنا المعنى. هكذا نتغلب على الشدائد.
معا، بإذن الله، ستتولد لدينا القدرة على تحريك الجبال. وليس لدينا بديل عن ذلك في زمن المخاطر.
والسلام عليكم ورحمة الله بركاته.